سلام إبراهيم
قرأت نص ـ ساعات كالخيول ـ أول مرة قبل واحد وثلاثين عاما حينما نُشِر في جريدة ـ طريق الشعب ـ العراقية في صيف عام 1976، والتي خصصت لها صفحتها الأدبية كاملة. منذ القراءة الأولى ربطتني بأجواء النص علاقة خاصة، فمازلت أعيد قراءته مكتشفا شيئا جديدا وكأنه صندوق سحري ذو طبقات يمنحك المعرفة والمتعة كلما قلبّت محتوياته وانغمرت في أجواء حكاياته. وقتها كنت قد بدأت كتابة أولى قصصي، فجعلني أتريث طويلا متأنيا في الكتابة كي أجد نفسي ومناخي الخاص، بحيث لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد 18 عاماً.
محمد خضير كاتب قصة قصيرة عراقي متميز
، أحدث بطريقة كتابته وبقليل من النصوص ثورة في السرد العراقي، وشكّل ظاهرة في القصة العراقية والعربية، ومازال يواصل نتاجه الكثيف والمختلف. ولدَّ عام 1942 في مدينة البصرة، ولم يغادرها إلى الآن رغم تعرضها طوال ثماني سنوات للقصف اليومي في الحرب العراقية ـ الإيرانية 1980 ـ 1988، ورغم تحولها إلى ساحة قتال في الحرب العراقية ـ الأمريكية الأولى عام 1991، وكذلك في حرب 2003، وكتب عنها كتابا ( ـ بصرياثا ـ صورة مدينة 1993)، مؤكدا فكرته في الإصرار على وجوده فيها كــ ( مواطن أبدي ).
ينتمي ـ خضيرّ ـ إلى جيل الستينات الأدبي في العراق، صدرت المجموعة القصصية الأولى له ( المملكة السوداء ) عام 1972 فاعتبرها النقاد نقطة تحول مهمة في الأدب العراقي والعربي إذ “أضافت عالما مختلفا وجديدا، متشابكاً، معقداً، مركباً وبسيط،اً عميقاً ووهمياً، واقعياً وخيالياً في آن. تلعب فيه اللغة والذاكرة والمخيلة والتاريخ والأسطورة والتشوف الإنساني النبيل أدوارا لافتةً للنظر”
وفي عام 1978، صدرت مجموعته الثانية ” في درجة 45 مئوي ” فسجلت نقلة نوعية أخرى في عالمه القصصي، فهو لم يكف عن محاولته لإقامة عوالم مدينيه تضرب جذورها في عمق التاريخ الواقعي والخيالي”.
ومن هذه المجموعة اخترت نص ـ ساعات كالخيول ـ الذي يشكل بدوره نقلة نوعية في أدب الكاتب والسرد العراقي، فبعد أن كان السرد حسيا معنياً في الحادثة المفردة أو الحالة الإنسانية ذات البعد الاجتماعي و النفسي أو العاطفي أو السياسي كما هو الحال في مجموعة الكاتب الأولى، يتحول في هذا النص إلى سرد معرفي يمزج الحكاية بالمعرفة بالفنتازيا بالواقع بالتأريخ في بنية سردية بدت ظاهرا شديدة البساطة لكنها شديدة العمق، فبعد هذا النص ستتحول القصة العراقية إلى منحىً لم يكن معروفا لدى الكاتب نفسه والأجيال اللاحقة.
النص مهم لأسباب عديدة. فهو ذو طبقات يحكي قصة أخر بحار عراقي معمر، بلغ التسعين ممن كان يعمل على ظهر السفن القديمة قبل الحرب العالمية الأولى، تحول إلى ساعاتي، يروى للسارد ولنا حكايته الساحرة بأسلوب ممتع وشيق، سيتعرف التلميذ الدنمركي على نمط متطور من الكتابة الأدبية في العراق لا تختلف كثيرا عما وصل إليه الأدب في الغرب، وله خصوصية متأتية من أهمية البقعة الجغرافية تاريخيا التي تروى القصة عنها وفيها، فعلى أرض العراق نشأت أولى وأهم الحضارات الإنسانية القديمة السومرية والبابلية، غير بعيد عن مدينة الكاتب ـ البصرة ـ هنالك أكتشف الإنسان الكتابة ووضع أولى القوانين، فإذا كان الطالب قد سمع عن هذا التاريخ، فمن خلال ـ ساعات كالخيول ـ سيتعرف عن التاريخ العراقي المعاصر، من خلال حكاية النص المشغولة بما جرى للبصرة في مرحلة الصراع الإنكليزي ـ العثماني قبل الحرب، ثم الاحتلال البريطاني للبصرة 1915، ومن الجدير بالذكر إلى أن هذه البقعة ـ البصرة ـ هي نافذة العراق الوحيدة على البحر والتي يأتي دائما من خلالها المحتل، بما فيه المحتل الأمريكي الذي قَدِمَ قبل أربعة أعوام 2003، وهي أي ـ البصرة ـ من أغني بقاع العالم بالنفط. النص يؤرخ لبشرها قبل اكتشاف النفط الذي سيحولها إلى جحيم محتدم حتى الآن.
البعد المهم الآخر للنص هو إنساني، فتيمة النص معنية بالإنسان كقيمة مطلقة يتجسد ذلك من خلال مدلولات حكاية مرزوق ـ في حواراته مع السارد. في مطلع النص يتحاور السارد مع صبي الفندق حينما يسأله: هل هو هندي؟. فيغور في تكوينات بشر تلك البقعة متحدثا عن اختلاط الأجناس وانصهارها في بعد واحد هو الإنسان حيث أن الشهوات لا تعرف لونا أو جنسا حسب تعبيره، ثم رؤية السارد في تأملاته، نجد ذلك حينما يقف أمام بيت الساعاتي القديم متأملا بلاطة منزوعة من الجدار متخيلاً، من وقف بنفس موضع وقفته في أزمنة أخرى ( ـ بحار مزعزع بدوار البحر ـ ، جندي محتل تكبله الشهوات، باحث أثار نزعها لغرابة خطوطها). هذا العمق في تأمل اللحظة العابرة يحتل كل جملة وفكرة في النص.. مما يجعل النص أقرب إلى نشيد شاعري يبّشع العنصرية والتطرف والعنف، وبهذا يظهر النص روح الإنسان العراقي الحقيقية في تطلعه نحو أممية البشر لسبب جوهري يقوله النص كون الأجناس امتزجت تاريخيا في ـ البصرة ـ وهو حال كل بقاع الأرض المحتدمة حول خط الاستواء جغرافيا في كل التاريخ.
البعد الآخر الذي أقترح على التلميذ الدنمركي البحث فيه هو البعد الفلسفي كخلاصة لتيمة النص، فمن الإنسان كمطلق من خلال اختلاط الأجناس إلى علاقته بالكون والوجود من خلال الزمن وهي العلاقة الأشد حساسية والأعمق معرفيا حيث يشي النص من خلال حكايته المنسابة عن علاقتنا بالكون عبر الساعة محور القصة ومحرض السرد، ففي مشهدين وحركتين يقوم بها ـ مرزوق الساعاتي ـ
الأول هو اختلاف مواقيت ساعاته في المشغل وتعليقاته عن أحوال سكان الأرض المختلفة في نفس لحظة الدق مما يعطي بعدا إنسانيا يحسس بوجود البشر في بقاع الأرض.
الثاني وقوفه أمام ساعة مائية قديمة، وشرحه للسارد عن تاريخ هذه الساعة ومن أين تعلم تصنيعها وعن حسابها اليوم عشرين ساعة بدلا من أربع وعشرين، مما يجعل حساب الأعمار والأوقات مختلفا، وهذا حال الزمن في الكواكب وأمكنة الكون الأخرى، مما يضفي على النص بعدا كونيا.
من أهم الأبعاد التي ممكن بحثها في النص هو البعد الجمالي المتمثل في لغة النص الخاصة بـ ـ محمد خضير ـ دون غيره من الكتاب. فلغته مميزة مفرداتها منتقاة بحساب دقيق بما يتناسب مع المادة الخام، كما أنها شديدة الشعرية ـ أتمنى أن يتمكن مترجمها نقل ما تحمله من إحساس ودقة وعمق ـ فالجملة السردية لديه تحمل أبعادأً مزدوجة شعرية ومعرفية تحّكم بنية النص. سأورد مثلا كي يكون استنتاجي واضحا. تيمة النص تعتمد الحديث عن بحار تحول إلى ساعاتي في إبحار مختلف لكنه في النتيجة واحد، فمرزوق في شبابه أبحر في البحر، وفي شيخوخته أبحر في الزمن وهو يغرق بالساعات ودقاتها في القبو، هذه المعادلة جعلت لغة الكاتب تنسج تلك العلاقة من خلال مرادفات متشابه في تكوين الساعة وتكوين الميناء والإبحار، فعندما يصف الساعة يقول:
ـ لم يكن يعمل فيها سوى نابض الغطاء الذي ما أن ضغطت عليه حتى انتصب كاشفا عن ميناء ناصعة وعن عقربين راسيين على رقمين من أرقام الميناء اللاتينية ـ
فالميناء والرسو هما من مدلولات الإبحار في اللغة العربية.
أو صوت مرزوق وهو ينصت لدقات الساعة واصفا فعل الدق بنفسه:
ـ كالخيول.. كالخيول تجري في قاع البحر ـ
أو ما يشعر به السارد بعد سماعه حكاية غرق سفينة تهريب الخيول من البصرة إلى الهند حينما يستلم ساعته بعد تصليحها من مرزوق:
ـ فتحت الغطاء. كانت العقارب تدب. أطبقت على الساعة راحة يدي، وأنصتنا للبحر يدوي في ساعات القبو. القوائم الرشيقة للخيول تجري في شوارع الميناء، وتخطف في زجاج الساعات الدقاقة، الساعات تتكتك، حوافر رنانة، تتدافع الأمواج، صهيل الخيول ـ
وعلى هذا المنوال يستطيع التلميذ الدنمركي تحليل النص من زوايا لا عد لها مثل خيول تجري في قاع البحر.