الفن للفن وطبقة الدخلاء / صائب غازي

الفن للفن وطبقة الدخلاء / صائب غازي

 

صائب غازي
لم أعد أعلم ما اذا كانت نظرية الفن للفن لاتزال تعمل أو بقي من يؤمن بها هذه النظرية التي درسناها في مادة الأدب بمرحلة الثانوية لم أتفاعل معها يوما بالرغم من أنها نظرية موجودة ومعترف بها وهي تعني أن يتم تجريد الفن من متعلقات وتفسيرات لها علاقة بالفكر أو الفلسفة أو الايدلوجيات وأن يرتبط بالشكل فقط دون أي معنى آخر فيكون الفن بمعزل عن كل التأويلات بل بمعزل عن المجتمع نفسه وهذا ما لم تره عيني يوما في أي عمل فني كما لم أعتقد بهذا المعنى الذي يُظهر الفن وكأنه فائضا عن الحاجة يذهب به بعيدا عن واقعه ودوره الأساسي وعن محيطه ومجتمعه ، الفنانون جميعا مؤمنين بأن الفن بحد ذاته هو حياة كاملة فهو يخاطب الأنسان والفكر والعواطف لا يوجد فن بلا هدف حتى لو كان العمل الفني غير مفهوم أو يحمل أفكارا غريبة فالمتلقي دائما يستطيع أن يلقي بظلال مخزونه الثقافي والفكري عليه ويحلله وفقا لرؤيته التي يملكها أو يعيد تركيب العمل في مساحة فكرية خاصة به ، في المدرسة كان أستاذنا في مادة الأدب شديد وحازم جدا ولم أتلمس عنده مفردات الفن والجمال وهو لا يمتلك عملا فنيا واحدا فهو مدرس تقليدي وكان يُحكم قبضته على عقولنا الغضة في محاولة لثنينا عن التفكر في جدوى هذه النظرية ففي احدى المحاضرات عرض علينا لوحة تنتمي الى المدرسة السريالية وأراد من خلالها أن يفرض ضوابطه المدرسية الصارمة محاولا اقناعنا بأن اللوحة لا معنى لها وهي عبارة عن الوان مجردة متداخلة شكليا ، لم استسلم لتلك الفكرة ولم التفت الى الضوابط الصارمة واطلقت العنان لمخيلة شاب يافع في مقتبل العمر يتأمل الألوان والخطوط والتكوينات ويركبها باطار أنساقها الدلالية والجمالية وأبعادها الفلسفية بشكل مختلف عما طرحه المدرس فانزعج لذلك وقال “تفسيراتك هذه لا علاقة لها بالفن للفن ولا بالفن للحياة انها تفسيرات مرتبكة بعيدة عن شكل العمل الفني نفسه” فكان هذا القمع الفني الأول الذي اتعرض له حيث لم يرضى الأستاذ بما سجلته من انطباعات فكرية وفلسفية وعاطفية وعظم من مخالفتي لضوابطه التي اعتبرتها أنا جامدة في تفسير اللوحة حين اعتقدها مجرد الوان ليست من واقع الحياة ولا تعبر عنها اذن هي مجرد رصيد فني بدون منفعة لذلك أسبغ على العمل نظرية الفن للفن ، هو لم يمنحني الفرصة الكافية للتعبير عن فكرتي البسيطة بأن الفن هو بحد ذاته حياة وهو القادر على تلوين الجو وخلق المكان والزمان والمعنى كما فعلت الوان اللوحة التي عرضها وكانت مثار جدل وخلاف وعلى ضوء تفسيراتي تلك تم منحي درجة ضعيفة في مادة الأدب ، دفع بي ذلك الى أن أعيش صراعات فكرية زادت من قناعتي برفض الفكرة المجردة للفن كرصيد مفرغ من دوره الإنساني والاجتماعي فشكل هاجسا وتحديا ذاتيا لي عند دخولي الى كلية الفنون الجميلة التي منحتني رؤية أوسع وأكثر ثباتا بقيمة الفن والصورة واللون في اثناء الدراسة ومابعدها كذلك في الجانب المهني وعملي مخرجا ، الفن مهما كانت مكوناته وعناصره صوتا أو صورةً فهو للحياة ومن الحياة سلبا كان أو إيجابا وحتى مفردة الفن للفن بحد ذاتها تعني حياة وفكرة وفعل تعني تراكم لوني وضوئي وحركي تعني صورة حسية تعبيرية حتى لو كانت قبيحة فهي تحمل رسالة من نوع ما ، ولا يمكن للفن أن ينفصل عن المكون الاجتماعي الذي ينشأ فيه فكيف يمكن أن ينصرف الفن الى الشكل والمظهر فقط بعزلة كاملة عن مظهره الانساني والقيمي وكيف يمكن أن يتجرد الفن من المعرفة ويرتبط بالتسلية فقط ، مع هذا الكم من التساؤلات والصراع الفكري والعصف الذهني الذي عشته ولا ازال أعيشه بدأت اتوقف اليوم مستسلما الى تلك النظرية مترحما على استاذ المدرسة الذي حاصرنا بفكرة تقليدية عن الفن بسبب ما أراه اليوم من انحطاط فني أخذ يغزونا يوما بعد يوم ليكشف عن هزالة الواقع الفني والثقافي وحتى الأخلاقي ، أقف اليوم مستسلما وعاجزا أمام موجة من كيانات بشرية يطلقون على انفسهم صفة فنانين ينالون الشهرة ويقدمون كل ما هو رث وهزيل ومسئ ليس للفن فقط بل للأخلاق والمجتمع والأنسان فتزداد خيبتي أكثر وأنا أرى أفواجا من المتلقين الشباب يتفاعلون بقوة مع هذه الطبقة من الدخلاء على الفن من الذين لا يرفعون شعار الفن للفن ولا الفن للحياة وانما يرفعون شعار الفن للانحطاط

(Visited 15 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *