رجل بين صفحات الكتاب / فينوس فائق

رجل بين صفحات الكتاب / فينوس فائق

​​​​​​​​​​فينوس فائق​​

قصة شيلان

“قد تتمكن من أن تغلق علي باب مكتبتي لو أردت، لكن لا باب و لا مفتاح لحريتي في التعبير لكي تغلقه علي” فيرجينيا وولف

حين أخذت رواية “الأم” لمكسيم غوركي، مؤسس المدرسة الواقعية الإشتراكية، التي كانت تمثل نظرة ماركسية للأدب، من مكتبة خالي رحمه الله، و قرأتها، كان عمري لا يتجاوز الخمس عشرة عاما، كنت أصغر بكثير من أفهم ما تحتويه الرواية من مفاهيم و دلالات فكريةو فلسفية. حين رأى والدي الكتاب في يدي، و فشل في إقناعي بالعدول عن قراءته، أخذ يحدثني عن غوركي، و كيف أنه فيلسوف و عالم إقتصادي و سياسي روسي و كانت لآراءه الفضل في تأسيس علم الإجتماع و تطور الحركة الإشتراكية فيما بعد، هذه المفردات و المفاهيم التي بالكاد كنت أهمها في تلك المرحلة العمرية.

عاودت قراءة الكتاب في مرحلة عمرية أكبر لاحقا، كنت بحاجة لأن أفهم الفكر الشيوعي الذي كان والدي يحمله، و ليس لإعجابي بذلك الحزب، بل لكي أفهم و علني أجد جوابا شافيا لسؤال بسيط وهو: لماذا كانوا يقولون “حين تمطر في موسكو، يحمل الشيوعيون المظلة في أي مكان آخر في العالم”؟ أردت أن أفهم لماذا فشل الحزب الشيوعي في أن يلبس الشعوب فلسفتها بشكل حقيقي على أرض الواقع و بقيت فلسفاتهم و لحد الآن في طورها النظري و لم تتجاوزه و لم تتحول تلك الفلسفة إلى واقع؟ خصوصا ما يتعلق بالحريات الفردية و تحديدا حرية المرأة و مساواتها بالرجل، و لماذا هذه النظريات لم تتحول إلى ثقافة مجتمعية؟ أردت أن أفهم لماذا إنسحبت الإشتراكية الماركسية في العالم أمام التيار اليساري؟ لماذا أصلا فشلوا في بناء مجتمع إشتراكي ماركسي بكل تلك الأيديولوجيات التي كان ماركس نفسه يرفعها من أجل النهوض بالمجتمع و بواقع الفقراء على وجه الخصوص؟ هل كان سبب كل ذلك فشل نظرية “الإلحاد” أم ربما لأنهم جاؤا بتلك الأفكار في مرحلة زمنية صعبة لم يستوعبها الناس لأنهم كانوا أحوج إلى الخبز أكثر من النظريات و الفلسفات التي يصعب تطبيقها على أرض الواقع؟ رغم أنه علينا أن نعترف بصدق أن الحركة الشيوعية كحركة سياسية في منطقة الشرق و العالم العربي لم تأخذ فرصتها بالحكم المباشر أو المشاركة بإدارة البلاد سياسيا في بلدانها و السعي من أجل تطبيق نظرياتها عليها بشكل رسمي في الواقع الإجتماعي و السياسي على حد سواء أسوة بما حدث في أوروبا الشرقية بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية و حتى تسعينيات القرن الماضي، إلا كلامي هنا عن تلك النظريات التي بقيت في طورها الشعاراتي و لم يتمكنوا حتى تحولها إلى ثقافة مجتمعية في ظل واقع متخلف رفض و يرفض بشكل قاسي كل جهد بهذا الإتجاه أو نظرية أو أي فكر قائم على الحرية و المساواة بين الرجل و المرأة و النهوض بالمجتمع إلى مستويات حضارية تليق بإنسان في زمن حققت فيه مجتمعات أخرى مكاسب إنسانية عظيمة، في حين بقيت مجتمعاتنا في مؤخرة عربة التطور، بسبب المد الديني المتخلف و ثقافة الذكورة في مجمل مجالات الحياة و الصراعات الجندرية الناتجة عن تلك الثقافة بين الرجل و المرأة و تهميش المرأة و إبعادها عن كل مجالات الحياة و تحديد دورها في إطار الأسرة لا أكثر و إعتبار غير ذلك نشاز و يقع تحت خانة الإنفلات.


نعم هكذا بدأ مشواري مع القراءة في جو أسري مختلف عنالأجواء الإجتماعية خارج المنزل الذي تربيت فيه، حيث تصورت لسنوات أن المجتمع الأكبر يشبه مجتمعنا الأسري الصغير، لكنني إصطدمت لاحقا بالكثير من الأمور التي أكدت لي أن هناك عالم آخر خارج بيتنا الأسري و نظريات تربوية أخرى غير تلك التي ربانا عليها والدي، و الذي كان يقول دائما: ” بإمكاني أن أوفر لكم أجواء تربوية أسرية صحية بين جدران هذا المنزل، لكن ليس بمقدوري أن أغير لكم العالم خارج هذا المنزل لكي يتناسب مع ما تؤمنون به من أفكار متحررة”، بإختصار علمنا جملة من القيم التي يصعب تطبيقها على أرض الواقع، و تركنا نواجه المجتمع بكل قساوته و نصطدم بالكثير من التجارب القاسية التي تحدث من حولنا و لا طاقة و لا قوة لنا على تغييره، لأنها ببساطة تتحول بمرور الوقت إلى قانون قسري للحياة و ثقافة مجتمعية تقوم عليها فلسفة التربية التي في أبسط تفاصيلها تفرق بين تربية فتاة و تربية ولد، بحيث يؤدي إلى عدم مساواة قاسية بين الرجل و المرأة فيما بعد، و يتحول إلى أساس لمبدأ العلاقة الأساسي بين الرجل و المرأة في المجتمع.
رواية “الأم” تتحدث عن ذلك الحزب، و تحدثت بشكل غاية في الجمال عن الأم و عن جوانب مهمة من الفكر الماركسي. في الفترة التي قرأت فيها هذه الرواية و غيرها من الروايات العالمية الأخرى بترجماتها للغة العربية، كانت مثل هذه الكتب في العراق محضورة، و يصعب الحصول عليها بسهولة، لا لشيء إنما لأنها ببساطة روايات تفتح الأعين و توسع أفق التفكير و تدفع بالقاريء إلى طرح الأسئلة و البحث عن الأجوبة التي كان من الممكن أن يكلفنا حياتنا أو ينتهي بنا بين جدران سجون نظام البعث آنذاك. تماما كما كان بطل رواية “الأم” يقول: “هذه الكتب كتبت في السر و طبعت في السر و أيضا تقرأ في السر”. نعم، تذكرت هذا الكلام عندما أخبرتني صديقتي شيلان أنها تقرأ الكتب سرا، ليس خوفا من نظام مستبد، إنما خوفا من أب و أخ مستبدين.
أما قرائتي لرواية “الحب في زمن الكوليرا” جعلني أكتشف رابطا غريبا بينها و بين رواية “الأم” و هو حضور رمز الأم في الروايتين، إذ يقول ماركيز “حب والدي لوالدتي هو الذي جعلني أكتب هذه الرواية”. فهذه هي عملية الكتابة التي تنطلق أحيانا من عمق تجاربنا الشخصية و تتخطى كل الحدود، فأغلب الروايات التي قرأتها فيها طاقة ديناميكية قائمة على موضوعة “الحب”، ذلك المفهوم الذي يتم التعبير عنه في أبهى حالاته فقط بين سطور الروايات. ذلك الحب الذي لولاه لما تحملنا مشقة الحياة، و لولاه لما قضينا الليالي منكفئين على كتاب ضخم نقرأه بشغف، ليروي عطشنا للقراءة و يجيب لنا على الأسئلة التي تؤرقنا، و لولا حبنا للقراءة لما كنا نجازف بحياتنا إبان نظام البعث و نستعير الكتب و نضعها بين أغلفة كتب المناهج الدراسية خوفا من قوات الأمن المنتشرة في الشوارع و بين الأزقة، و أيضا خوفا من أهالينا الذين لم يكونوا يؤمنون بشيء إسمه “القراءة” خصوصا بالنسبة للإناث. مثلما كانت تفعل الفتيات الكثيرات الشغوفات بالقراءة و منهنصديقتي “شيلان”، التي كانت تأتي إلي بحجة مراجعة الدروس، فكنا نقرأ أحيانا في كتاب واحد، بعد أن نضعه غالبا في غلاف كتاب مادة الكيمياء أو الفيزياء. شيلان، التي وضعت كتاب (قصة حب) لأيريك سيغال في غلاف مادة الكيمياء، لكن بطريقة أو بأخرى إكتشف شقيقها الأكبر الخدعة، و أخذه منها و قال لها بينما كان يضرم النار فيه: “من تقرأ مثل هذه التفاهات، لم تتلق التربية الجيدة، و أنا سأربيك من جديد”. من الكتب التي أتذكر أننا قرأناها سوية كتاب “الجنس الآخر” لسيمون دوبوفوار و “المرأة و الجنس” لنوال سعداوي، فهذين الكتابين كانا كفيلين بأن تمنع شيلان من إكمال درساتها و أيضا منعها من صداقتي, لأنني بنظرهم متهمة بتشويه أخلاقها بواسطة الكتب, و بالتالي تزويجها قسرا قبل أن تدخل الجامعة.  

نحن لم نعان فقط من نظام سياسي مستبد سلب حقوقنا و شوه ثقافتنا، إنما كنا نعاني على المستوى الإجتماعي أيضاً، فالمجتمع الذكوري لا يؤمن بقدرات المرأة و لا يساعدها على أن تطور قدراتها و إتخاذ قراراتها و أن تفهم العالم من حولها. يريدها مسيرة و مغلوبة على أمرها لكي لا تتجاوز حدود كائن مطيع خنوع و فاقد الإرادة و عديم الأهمية، جل وظيفتها في الحياة إرضاء زوجها و القيام بمهامها البيتية على أكمل وجه و إنجاب الأطفال و رعايتهم.

قرأناو شيلان و أنا عن حياة سيمون دوبوفوار، و كيف قضت حياتها مع سارتر بدون عقد زواج، و كانا يقيمان في بيت واحد، و لم ينجبا الأطفال بل تفرغا لمشروعيهما الفكري و الفلسفي، تلك الحياة التي منحت دوبوفوار الفرصة الثمينة لكي تطور قدراتها الأكاديمية و تسافر و تنجز العديد من البحوث و تكتب العديد من الروايات و تصبح تلك المرأة التي تركت لنا كل ذلك الإرث الثقافي و المنجز الفكري الثر. و كم أعجبنا بها حين تقول: “إن الفئة المهيمنة تحاول أن تبقي المرأة في المكان الذي تخصصه لها وتستقي الحجج من الوضع الذي خلقته هذه الفئة نفسها، الذي يذكرنا بقول (برناردشو) في الزنوج: إن الأمريكي الأبيض يهبط بالزنجي إلى مستوى ماسح الأحذية، ليستنتج من ذلك أن الزنجي ليس صالحًا سوى لمسح الأحذية و تناقشنا فيها، كما لو أن دوبوفوار عاشت في مجتمعنا و عانت نفس معاناتنا، و تسائلنا: ماذا لو أنها كانتدوبوفوار إبنة مجتمع مثل مجتمعنا، فهل كانت ستصبح “سيمون دوبوفوار الفيلسوفة التي نعرفها؟ أم أنها في أفضل الحالات كانواسيخرسون صوتها و يزوجونها عنوة بإبن عمها أو خالها، و بدلا من كتابة كل تلك الكتب و التفرغ لمشروعها الفلسفي الإنساني، وكانت ستنجب أطفالا تجوب بهم في الشوارع بحثا عن لقمة العيش أو تنتظر زوجها يرجع في المساء لتنزع حذاءه و تضع له الطعام و تطعمه و تقوم على خدمته على أكمل وجه خوفا من أن يستشيط غيضا و يشبعها ضربا؟  

كانت شيلان، و هي نموذج لأعداد كبيرة من النساء يعشن نفس الواقع لكن بسيناريوهات مختلفة، كانت تحكي لي كيف أن أخوها و والدها كانا يحرقان الكتب أمام عيونها، فزوجها كان يفعل ذات الشيء و بقسوة و بدون رحمة، حزنت عليها جداً حين قالت: “كانوا يظنون أن رجلا يختبيء بين صفحات الكتاب أحبه، أو أن عقلا متنورا يوجد بين السطور سيفتح عيني على حقوقي و أطالب بحقي كإنسانة، سيساعدني على فهم العالم المحيط بي و البحث عن الأجوبة للكثير من الأسئلة التي تكاد تفجر رأسي، لذلك تراهم يحرقون كتبي”.

على العكس من أهل شيلان، كان والدي يطالبنا بإصرار بشيئين، أولا: أن نصحوا باكرا و أن لا نبقى في الفراش لساعات متأخرة منالظهيرة، لأن من يقضي الوقت الكثير في الفراش تفوته الحياة و تأخذ معها دروسا قد لا تتعوض لاحقا. و ثانيا: القراءة ثم القراءة، فكان يقول: يغلق النظام البعثي المطارات علينا و يمنعنا من السفر لأسباب سياسية، و أنتم بإمكانكم تعويض ذلك بأن تسافروا بين صفحات الكتب، و التعرف على الكتَاب، و سيرهم الذاتية و التعرف على ثقافات الشعوب من خلال الروايات و الكتب و الإطلاع على تجارب الشعوب في الحياة. هذه كانت أبسط النصائح التي كان والدي يؤكد عليها دائما. في حين أن خارج منزلنا كانت الكتب تحرق و تمزق خوفا من ثقافة تتفوق على ثقافتهم المتخلفة، و أحيانا خوفا من أن يجدوا رجلا بين صفحات الكتاب يواعد بناتهم.

و شيلان كانت تقول أن والدها و شقيقها و والدتها أيضا رفضوا زواجها ممن تحب لأنه كان متعلما و كان يذكرهم بنواقصهم، أما زوجها الذي أجبروها على الزواج منه كان نسخة طبق الأصل منهم، فهو أيضا لم يقرأ في حياته سطرا في جريدة، و لم يكمل تعليمه، مثل شقيقها الذي تزوج أيضا إبنة عمه قسرا. حتى أصبح الغصب و القسوة و الزواج القسري هما ثقافة الأسرة نتوارثها بكل فخر. تلك الثقافة التي بإمكاننا محاربتها و القضاء عليها بالقراءة و التعمق في الحياة و فهم حقيقة أن من المجحف أن نترك نصف المجتمع جاهلا فقط لكي نستمر في غيينا و إبقاء الحياة داخل دائرة التخلف. و أخيرا كما يقول بنجامين فرانكلين: “الشخص الوحيد الذي يستحق الشفقة، هو الشخص الذي لا يعرف كيف يقرأ في يوم ممطر”.

(Visited 111 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *