أ.د عبد الستار الجميلي
الأمين العام للحزب الطليعي الإشتراكي الناصري/ العراق
بعد إنتهاء الحرب الباردة عام ١٩٩٠، تحول الصراع الأيديولوجي إلى صراع جيو سياسي على الموارد والثروات، التي بدأت وتيرة ندرتها “المالتوسية” تتضخم بفعل الزيادة غير المسبوقة في عدد السكان والإستخدامات غير المنضبطة لهذه الموارد والثروات، كعامل أساس(أي الموارد والثروات) لتعظيم مصادر القوة، وبالتالي الهيمنة على هيكل النظام الدولي وموازين القوى فيه، التي لم تعد هذه الهيمنة في مرحلتها الأحادية تكتف بسلاسل التوريد للشركات المعولمة، وإنما طوّرت برنامجها إلى إحتلال وإحتكار هذه الموارد والثروات، وإقصاء عنصري وكراهية دموية لكلّ منافس واقع أو محتمل.. كما لم تعد الحدود موضع ” مديح” بالمعنى الذي طرحه ريجيس دوبريه في كتابه ” في مديح الحدود”، حيث أصبحت أكثر سيولة وأقل ممانعة، بفعل المتغيرات الجذرية التي صاحبت وأعقبت انتهاء الحرب الباردة، التي طالت مفاهيماَ اساسية كالسيادة، والحدود التي إمتدّ “مجالها الحيوي” لبعض الدول الكبرى لتشمل الأقاليم والقارات وما فوقهما صعوداً وما تحتهما نزولاً.
ولما كان الوطن العربي يمتلك أهم العقد الحضارية والإقتصادية والإستراتيجية وخطوط إمداداتها البحرية والبريةوالجوية، لذلك كان في مرمى القوى الدولية، خصوصا الغربية وقيادتها الأمريكية، حيث تعرض الوطن العربي لحملة ناعمة وصلبة من أجل تمهيد الأرضية القيمية والسيكولوجية والثقافية لقابلية التلقي المرن لمدخلات البرمجة لبضائع الليبرالية ومعروضاتها الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، وسلاسل امدادات الرأسمالية وسوقها المفتوح على كل شيء..تتوجت هذه البرمجة بما سمي في الإعلام الأمريكي والغربي بــ((الربيع العربي))، الذي بدأ بمطالب شعبية مشروعة ضمن خارطة طريق لينة في مبتدأها، لتتحول تدريجيا وفق ((معالم الطريق)) المرسومة الى حاكمية للإرهاب والإبادة الجماعية وتغيير الهوية والخرائط والرموز والاعلام وتدمير مبرمج للحواضر والعواصم العربية.
كانت العروبة الرأس المطلوب في مرمى القوى الشعوبية التي خرجت فجأة من أوهام التاريخ وكهوفه المثقلة بالخرافات والأساطير، مسلحة بفتاوى وتنظيرات حاكمية مرشدي وولاة الفقه وليبراليي الموجة الثالثة للإستعمار بعد مرحلتي الإحتلال العثماني والإحتلال الغربي البغيضين، وذلك بالإستقواء بالتدخل الخارجي وإستجلاب الاحتلال الأجنبي.. دمر هذا المشروع العراق وتونس وسورية وليبيا ولبنان واليمن، وفشل في الخليج العربي والجزائر والمغرب والأردن، لأسباب تتعلق بالنسيج الإجتماعي والسياسي والأمني.. ونجح في مصر مؤقتا.. وكان الهدف الذي تحقق في إطار تلك المرحلة المظلمة بمقاييس الوعي وكثافة مشاريع العدوان، قد تحرك على جبهتين: محاولات التفكيك المنهجي المنظم للهوية العربية والإستخفاف بها والقفز عليها، تحت أعلام الطائفية والعنصرية المدججة بدعم ميداني ومالي واعلامي غير مسبوق.. والتفكيك الجيو سياسي لمنظومة الأمن القومي العربي، حيث أصبحت الحدود العربيةمباحة ومستباحة لمشروع تفتيتي وإن تعدّدت أذرعه المحلية والإقليمية والدولية.
وكانت مصر الجائزة الكبرى لهذا النجاح المؤقت، وعروبتها الرأس المطلوب قطعه من الوعي والتاريخ والجغرافية.. ولم تكن مصر مجرد حدود في نظر رعاة المشروع، ولكنها محكومةبعبقرية مكانها الجيو سياسي أن تكون حاملة للقدر العربي ومشروعه التوحيدي الوحدوي، والإستجابة للتحديات والمخاطر التي تواجه الأمة العربية في كلّ المراحل، هذا القدر أعطته ثورة ٢٣ يوليو ومشروعها الناصري النهضوي بعدا فكريا وحركيا وغائيا، نقل مصر والوطن العربي من هامش التاريخ الى قلب حركته وموازين القوى فيه، وإن تعطل إلى حين، وهذا هو مكمن خطر مصر ودورها القيادي العربي من وجهة نظر القوى المعادية.. لذلك ما إن خيّم الظلام على مصر وشعبها حتى كانت عروبة مصر في مرمى الهدف، بإستهداف تاريخها وجغرافيتها ومحاولة تقطيع أواصر وروابط علاقاتها العربية، ومحاولة إقحام جيشها العربي الباسل في آتون الابادة الجماعية البينية العربية حتى تتلطخ الأيادي العربية بالدماء العربية الزكية.. لكنما الشعب العربي المصري لم يلن ولم يستكن ما إن تم مسَّ عصب عروبته شديد الحساسية، حين باتت مصر العروبة فجأة مأوى لشعوبيي الإرهاب والطوائف والملل والنحل .. فكان على الشعب العربي المصري الأصيل أن يتحرك بتمرد وغيرها من الفعاليات الشعبية، وبجيشه العربي الباسل الذي كان يراقب الموقف بوعي إستراتيجي وتكتيكي منظّم.. حتى كان يوم ٣٠ يونيو: تحرك شعب مصر بالملايين في العاصمة والمدن والقرى والأحياء على أرضية هدف مشترك واحد، إسقاط ((مرشدية)) الجماعة المستوردة، وإنقاذ مصر من كبوتها وإعادتها إلى حقائق تاريخها وجغرافيتها العربية، هوية ودوراً ومصيراً. وكان تجاوب الجيش العربي المصري ممثلا بالقائد العربي الشجاع عبد الفتاح السيسي سريعا وحاسما، منهياً بذلك صفحة سوداء في تاريخ مصر والأمة العربية، كانت قد ألقت بضلالها المعتمة رغم قصر المدة، على كل ساحات الوطن العربي، إرهابا وإبادة وفوضىوإنعزالا وإحتلالا.. وفي موازاة ذلك كله وتفاعلا معه، كانت الأمة العربية من جزر القمر وإلى الخليج العربي والأحواز العربي المحتل، ومن بحر العرب ومضيق ناصر وإلى الإسكندرون المحتل، كانت تتابع بقلق بالغ ملايين الشعب العربي وجيشه الباسل في ٣٠ يونيو، ثم بفرح غامر في ٣ يوليو حين أعلن القائد العربي الشجاع السيسي نجاح ثورة ٣٠ يونيو الشعبية العربية المجيدة.. التي كانت متغيراتها المحلية والعربية واسعة النطاق والتأثير.. فقد إستعادة مصر دورها العربي القيادي، وإستعادة معها الأمة العربية ثقتها بنفسها، ووعيا جديدا بمصالحها الإستراتيجية في إطار المفاهيم الجديدة للصراع الجيو سياسي،الذي أخذ بعداً منهجيا وفكريا إحتاج الى قدر كبير من التحليل العميق للقواعد الدولية المستحدثة وصراعات الجغرافية السياسية، التي كانت الهويات القومية والإقليمية والقارية والحضارية متشابكة في معايير المصالح والمحددات والثوابت للدول، ومصادر ومعايير القوة التي تحميها..
لذلك كان تحرك ثورة ٣٠ يونيو سريعاً في إستجابته، في إطار محيط جيو سياسي عربي يقوم على حقائق الهوية العربية كإطار حضاري وثقافي جامع للعرب وشركائهم في المواطنة في كلّ ساحات الوطن العربي، توحيدا وطنيا وقوميا، ورفض وإدانة كل أشكال الطائفية والعنصرية المقيتة، مستعيدةً بذلك جوهر مشروع ثورة ٢٣ يوليو الذي مثّل مرجعية تاريخية وإستمرارية في قلب ثورة ٣٠ يونيو. كما تحرّكت الثورة أيضا في إطار أمن قومي عربي لا يتجزأ في مواجهة مصادر التهديد والأطماع والمخاطر الي مثّلها الكيان الصهيوني الإستيطاني الغاصب في فلسطين العربية، والنظامان الإيراني والتركي في الخليج العربي وسورية والعراق وليبيا واليمن ولبنان، والمظلة المساعدة لمشاريعالعدوان كافة، مظلة المشروع الأمريكي الصهيوني، ومعتمدي هذه المشاريع من الجماعات الارهابية والواجهات المدنية والإنسانية، مضافا الى ذلك المخاطر الواقعة والمحتملة لحرب المياه التي يشنّها المربع المائي الإقليمي الخطر: أثيوبيا والكيان الصهيوني وتركيا وإيران.
ومن أولويات الأمن القومي العربي تعظيم مصادر القوة وأدواتها، لذلك كان التركيز على بناء الجيش العربي المصري الذي أصبح القوة الرئيسة الأولى في الشرق الأوسط، عددا وتجهيزا وتسليحا وتنويعا، وكذلك الأمر بالنسبة لتنسيق العمل والإعداد والتجهيز بين الجيوش العربية، إلى جانب تفعيل دور الروابط الشعبية والرسمية والإقتصادية والأمنية العربية الأخرى، ورفض كل أشكال التدخل والعدوان في الوطن العربي.. والإتجاه بجدية لتوحيد الموقف العربي إقليميا ودوليا، إن من خلال الجامعة العربية، أو الأمم المتحدة أو من خلال المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى، الذي أخذ منحىَ إيجابيا بإعادة توحيد الصف العربي، وخلق بيئة عربية مساعدة لعودة سورية الى حضن أمتها العربية، وحلّ المشاكل العربية البينية العالقة الأخرى.
وتمثّل العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا التي أنهت الهيمنة الأحادية الأمريكية وقواعدها الإستغلاليةالإقصائية المفروضة، فرصة تاريخية للأمة العربية لإعادة قراءة مصالحها من جديد، للتخلص من أسر شبكة وسلاسل الرأسمالية الغربية التي عملت وتعمل بتصميم على إجهاض كل مشاريع التنمية والتوحيد والتقدم، بما يفتح الآفاق بإتجاه فرض الوطن العربي قطبا جيو سياسياً، أمنيا وسياسيا وإقتصاديا وحضاريا، يشارك البشرية في أمل السلام والتعاون والرخاء المشترك للبشرية جمعاء، خصوصاً وأن موقف أغلب الدول العربية، وفي مقدمتها مصر العروبة، قد رفضت بوعي إستراتيجي، ورغم كل وسائل الضغط والتهديد، الإنضمام لحملة العقوبات والعنصرية والكراهية والعدوان الغربية ضد روسيا الإتحادية، التي كانت وستبقى تمثّل “صداقة مستدامة” للعرب بحكم حقائق الجغرافية والتاريخ ومحددات ومعطيات الصراع الجيو سياسي العالمي، الذي كان الوطن العربي ومازال ميداناً مفتوحاً لصراع ناعم وصلب، بين قوتين، محكومتين بقوة المصالح المتعارضة أو المشتركة، بأن تعتدي عليك إحداهمابإنتهاك جسيم لكل قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية، لتفرض عليك التفكيك والتجزئة في الهوية والحدود، والتخلف والتبعية.. فيما القوة الأخرى تحاول أن تحميك وتتعامل معك بندية ككلّ لا يتجزأ وأن تُساهم في البناء والتنمية وإحترام قواعد القانون الدولي وفق مقاصد وأهداف الأمم المتحدة، التي نصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة، الذي بني على حق تقرير المصير للأمم، الذي يتمحور حول ضرورة تطابق الحدود السياسية للدولة مع الحدود القومية للأمة.