أمننة الأيدلوجيا.. ” الجيوبولتيك الشيعي” إنموذجا / نعمة العبادي

أمننة الأيدلوجيا.. ” الجيوبولتيك الشيعي” إنموذجا / نعمة العبادي

نعمه العبادي

مفهوم الأمننة “Securitization” هو نموذج يشرح الانتقال الذي يتمكن من خلاله ممثلوالدولةفاعلو الأمننةبتحويل أمور معينة من قضايا غير سياسية أو القضايا السياسيةالعادية إلى مسائلأمنية، مما يتيح استخدام وسائل غير عادية باسم الأمن، بعبارةأخرى يمكن من خلال الأمننة ان يتم نقل قضية، مثل الأنفلونزا، من المجال غير السياسيإلى المجال السياسي، وفي النهاية إلى مجال الأمن. ومع ذلك، فإن القضايا التي يتمأمننتها لا تمثل بالضرورة القضايا الأساسية للبقاء الموضوعي للدولة، ولكنها تمثلالقضايا التي نجح فيها فاعل الأمننة بتحويل قضية ما إلى مشكلة وجودية.

نتحدث في هذا المقال عن مستوى متقدم من الامننة ينطلق من تحويلالخصمالايدلوجيإلى خطر أمني، يتم تعبئة الجمهور من خلاله لخلق موقف مواجهة، يتعدىحدود الخلاف الفكري، ويتداخل في هذا الموقف، الضاغط الشعبي المؤدلج مع التوظيفالسياسي والامني لفاعلي السلطة الذين يستثمرون في الصراع الايدلوجي لمكاسبنفعية، تبنى على اساسها نظرية مشوهة للعلاقات الدولية.

شكل التغيير الذي جرى في ايران على يد الراحل الكبير السيد الخميني (قدس سره) بدايةموجة صراع سياسيايدلوجي متعدد الاتجاهات، عمل على تكوين صورة نمطية قائمةعلى اساس (شيطنة) النظام والدولة في ايران، وتقديمها كمشروع (مزعزع للامن) قائمعلى الايدلوجيا الشيعية كجلباب يخفي اطماع فارسية توسعية، بحيث انتهى الامر الىارجاع العدو الصهيوني (قضية العرب الكبرى بحسب الادبيات الشعبية والرسمية ما قبلعام ١٩٧٩) من صدارة قائمة المهددات، وتحوله الى شريك استراتيجي، ورفع ايران الى رتبةالصدارة للمهددات، في ظل تعبئة سياسيةايدلوجية، وتسويق اعلامي متقن، خلقصورة نمطية مطبقة لدى معظم الوسط السني، بل لدى معظم دول العالم، وقد انتج هذاالتحشيد المضاد حرب الثماني سنوات مع العراق، فضلا عن مظاهر صراع متعددة الاوجه.

يقع مصطلح (الجيبولتيك الشيعي) ضمن هذا السياق، حيث قامت (نخب، حكومات،مرجعيات، تجمعات فكرية، فعاليات شعبية، اجهزة استخبارية، مكائن اعلامية)، بتحويلالموقف الايدلوجي من الشيعة عبر (أمننة منظمة) الى مفهوم تحفيزي، يتضمن خطابمبطن للتعبئة والمواجهة.

يعد الفرنسي، فرانسوا توال (Francois Thual)، أول من استخدم هذا المفهوم عندما نشركتابه باللغة الفرنسية بعنوانالجيوبوليتيك الشيعي، في عام 1995، وتمت ترجمتهإلى الفارسية ونُشِر ثلاث مرات في إيران، من قِبل علي رضا قاسم أغا، عام 2000، وحسنسادو، عام 2001، وقطيون ياسر، عام 2003؛ إذ أشار إلى أن المذهب الشيعي مفهوم ذوطبيعة جيوبوليتيكية، على اعتبار أن مجالات الشيعة الجغرافية تؤثِّر على علاقات القوةفي جميع أنحاء العالم، وقد طور التمترس الايدلوجي هذا المفهوم من خلال توصيفهبحسب (د. فراس إلياس) : إن الجيوبوليتيك الشيعي هو حالة معبِّرة للمجتمعات الشيعيةبطبيعة جيوسياسية، فهو تعبير عن الجغرافيا الشيعية المؤثرة في علاقات القوة الدولية،عن طريق الدفع بالمجتمعات الشيعية إلى الارتباط بالمركزية الإيرانية، ومن ثم تشكيل قوةدولية صاعدة، كما عبَّر عن ذلك محمد جواد لاريجاني، من أن إيران قطب دولي يسعى إلىإعادة تشكيل النظام الدولي على أساس التعددية القطبية، أي إن الجيوبوليتيك الشيعيهو بالأساس مشروع جيوستراتيجي إيراني، يعكس طبيعة الافتراضات الجيوبوليتيكيةالتي نادى بها المفكر الاستراتيجي، هالفورد جون ماكيندر (Halford John Mackinder) في نظريته الجيوستراتيجية: قلب الأرض (The Heartland Theory)، وهي فكرةاستعارتها الثورة الإيرانية لتشكيل مركزية شيعية في العالم الإسلامي، تستند بالأساسإلى إيران باعتبارهادولة أم القرى، ونظامها السياسي القائم على نظرية ولاية الفقيهالمطلقة.

ويضيف، إن الجيوبوليتيك الشيعي على الرغم من حداثته، إلا أنه شكَّل هدفًا استراتيجيًّالطالما عملت على تحقيقه الجمهورية الإسلامية في إيران، فكل الطروحات الفكرية التينادى بها الخميني جاءت في إطار تحقيق هذا المسعى الاستراتيجي الإيراني، الذي يمثِّلفي النهاية اللبنة الأساسية لتشكيل الإمبراطورية الشيعية العالمية، التي يقودها الوليالفقيه في إيران، فحتى فكرة ولاية الفقيه هنا تأتي ضمن سياق استراتيجي يهدف إلىإيجاد حالة ربط بين فكرة المركزية الشيعية العالميةإيران، ومركزية صنع القرارولايةالفقيه، الذي يمثِّل مركز الشرعية السياسية في العالم الإسلامي الشيعي، مستندةً في ذلكإلى الظروف التاريخية والسياسية التي مرَّت بها أيديولوجيا الإسلام السياسي الشيعيفي إيران.

يحدد هذا الطرح الاسباب التي دفعت لظهور هذا المفهوم، إن من الأسباب الرئيسة التيدفعت إيران للتحول من الجيوبوليتيك الإيراني إلى الجيوبوليتيك الشيعي، هيالتطورات السياسية التي شهدها العالم الإسلامي، وتحديدًا في الدول التي تحتوي علىمجتمعات شيعية بدأت تستشعر وجودها السياسي، وتناغمت مع الأجواء الثورية التيأنتجتها الثورة في إيران، وأعطت دفعة معنوية للمجتمعات الشيعية في البلدان الأخرى،كما هي الحال في لبنان والعراق وأفغانستان والبحرين والسعودية وباكستان، وهيَّأالأجواء السياسية في هذه البلدان للخروج من حالة رفض العمل السياسي، والبحث عنفرصة لتصحيح الخطأ التاريخي الذي وقعوا فيه. وبعد هذا التطور السياسي النسبيالذي أصاب الجيوبوليتيك الشيعي، نجح الشيعة في معظم دول المنطقة العربية تدريجيًّافي لعب دور أكثر تأثيرًا، والمشاركة الفاعلة في الهياكل السياسية لهذه البلدان.

تصوغ هذه الفذلكة اطروحتها على ان

حالة الصراع الطائفي والمذهبي أسهم في الجغرافيا الإسلامية في إنتاج ما يسمىبـالجيوفوبيا الشيعية الصاعدة، والرامية إلى ابتلاع الجغرافيا الإسلامية عبر سعيإيراني جاد لـأيرنةالعالم الإسلامي، وهو ما تؤكده أيديولوجيا الثورة في إيران، وعبرمجموعة من الآليات الاستراتيجية منها فكرة تصدير الثورة والدفاع عن المستضعفين، كماتبلورت الارتدادات الجيوبوليتيكية للصراعات الدولية على الجيوبوليتيك الشيعي عبرأطروحةالهلال الشيعيالذي وضع الجغرافيا الإسلامية، وتحديدًا السنية، أمام تحديوجود تقوده إيران؛ الأمر الذي أدى إلى ردات فعل عكسية قادها العديد من الدولالإسلامية، ومنها السعودية اليوم، للوقوف بوجه هذا التحدي الوجودي الذي تمثِّلهالاستراتيجية الإيرانية الشاملة.

تقدم هذه الرؤية السلوك الايراني مستندا لصبغة مذهبية (التشيع)، مستغفلة لجمهورهاالمتلقي من خلال وضع ايران الدولة في سياق جديد غير سياقها المعلوم تاريخيا كوريثلامبراطورية امتدت الى مساحات واسعة، وانها دولة لها مقوماتها التي تؤهلها للعب دوريتناسب مع حجمها وموقعها بعيدا عن الجانب العقائدي والمذهبي، وان جوهر القصة فيايران يتصل بالدولة والامن والجغرافيا والمصالح ولا صلة للجنبة المذهبية مطلقا في خلقهذا السياق، كما، ان تجريد المجتمعات الشيعية من وطنيتهم رغم انهم اكبر المدافعين عناوطانهم، واكثر المضحين فيها، والاعرق وجودا،  على اساس انهم مرتبطون بمشروعالجيوبولتيك الشيعي، هي (عدائية ايدلوجية) تلبس جلباب الخداع المعرفي، وتقومبعملية تحشيد استفزازي، يسوغ حتى الممارسات الارهابية التي تستهدف الشيعة بناءعلى منطلقات مذهبية.

لقد لعبت التعبئة الايدلوجية الموظفة لآلية الأمننة، دورا قذرا في خلق الصراع الذي قطعاوصال مجتمع عالمنا الاسلامي، واضعف كيان الدول، وفتحت الباب واسعا امام التدخلاتالخارجية، تحت ذريعة الإحتماء من خطر الجيوبولتيك الشيعي، بحيث سوغت هذهالشرعة التحالف مع اسرائيل.

ان اعادة قراءة المجتمعات والموقف منها في ظل منهج معرفي منصف وموضوعي، ضرورةملحة لاستقرار الامن في منطقتنا، والسماح لكل مجتمع بممارسة دوره بحسب حجمهومكانته، ليكون شريكا حقيقيا في ثروة وسلطة بلده.

ختاما، وليس الامر يتعلق بخطاب الضد، فإن الانصاف يشير الى ان الشيعة في كل بلد منبلدانهم، منشدون بقوة الى اوطانهم، وراسخون في وطنيتهم، وغيرون على اوطانهم،وانهم يتحركون من خلال الاستحقاقات الوطنية، ولا يمثل لهم (زعم الجيوبولتيك الشيعي) اي دالة في حراكهم السياسي والثقافي، بل تقودهم الاستحقاقات الوطنية اكثر من كلالمكونات الاخرى، وانهم يقرأون الموقف من ايران من خلال مصالح دولهم وحقائقالجغرافية والتاريخ.

(Visited 24 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *