أ.د عبد الستار الجميلي
مع أول تشكيلة سياسية وإجتماعية منظمة شهدتها البشرية، طرحت إشكالية الحكمنفسها على الحكام والمحكومين معا. الحكام يريدون المزيد من أدوات الحكم والتحكموالإستئثار بالسلطة والثروة، وبوسائل القهر المشروعة وغير المشروعة.. والمحكومونيريدون التخلص من القيود المفروضة عليهم، والتعبير عن إرادتهم بمن سيحكمهم وحدودسلطته، والتمتع بنصيب عادل من الثروة الجماعية.. التصادم بين الإرادتين شهد مراحلطويلة من النضال الشعبي الصعب والتضحيات الجسام والأفكار والفلسفات وأشكالوأنواع من الدول والأنظمة، كانت الغلبة في البداية للحكام بحكم الإستبداد بثلاثيةالسلطة والمال والقوة، حتى إهتدت البشرية إلى حل يضمن الغلبة القانونية الجماعيةللمحكومين(الذين أصبحوا مواطنين) على الحكام الذين يتبوأون السلطة بإرادة ومراقبةمن قبل المواطنين أنفسهم، ليصبحوا بذلك هم مصدر السلطة التي أصبحت لهم ومنأجلهم، فكانت الديمقراطية أي حكم الشعب وتوكيد السيادة له ووضع السلطة كلها بيده.
لتبدأ بذلك مراحل وصور نشأة الديمقراطية، التي كان مفتتحها من خلال “الديمقراطيةالمباشرة” عند اليونان، التي يتولى فيها المواطنون مباشرة بأنفسهم السلطات الثلاثالتشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن مفهوم المواطنين الذين لهم حق ممارسةالديمقراطية المباشرة وإطاره لم يتسع الا للأحرار منهم، حسب معيار وتوصيف المرحلة عنداليونان، دون النساء والعبيد وغيرهم. وبعد سلسلة طويلة من مراحل التطور ومع إتساعمساحات دول المدن والإمبراطوريات والدول الحديثة والزيادة في عدد سكانها، تطورتالديمقراطية المباشرة إلى ” الديمقراطية شبه المباشرة” بوضع آليات النيابة عن الشعب معتكبيلها بقيود تضمن الحفاظ على سلطة الشعب، كالإستفتاء الشعبي ازاء القراراتالمصيرية، والعزل الشعبي للنائب الذي يحيد عن تمثيل الشعب، والإقتراح الشعبيللقوانين التي يقترحها الشعب وتخدمه، وغير ذلك من الآليات التي تؤكد إستعادة السلطةمن الحكام الذين رضخوا لإرادة المواطنين على مضض ولم يعودا يتمتعون لا بالحقالإلهي ولا بحق الإستبداد الأرضي، في مواجهة سيادة الأمة والشعب.
لكن نزعة الإستبداد لدى الحكام القابضين على السلطة، سرعان ما قامت بالإلتفاف علىإرادة المواطنين المنتصرة، لتفرض تطوراً متعسفاً للنظام السياسي إلى “الديمقراطيةالنيابية” السائدة في هذا العصر، حيث يتم تفعيل محسوب ومقنّن لإرادة المواطنين لمرةواحدة خلال أربع سنوات أو اكثر بحسب نصوص الدساتير، لينتخبوا من يٌفترض أنّهيُمثلهم في البرلمانات في مواجهة السلطة التنفيذية وبحسب نوع النظام البرلماني: نيابيوفقا لما مطبق في إنكلترا، أو رئاسي كما في الولايات المتحدة الأمريكية، أو حكومةالجمعية كما في سويسرا، أو مختلط وفقاً للنظام الفرنسي، أو ديمقراطية شعبية حسب ماطبق في الإتحاد السوفييتي سابقا والصين حاليا.
لكنما مآلات النظام الديمقراطي المعاصر تحوّلت إلى أزمة وإنعدام ثقة ومصداقية فيفلسفة وبنية هذا النظام، لتصبح الديمقراطية بهذه الأزمة جزءاً معقداً ومستحدثاً منمشكلة الحكم وأسئلتها الأكثر تعقيداً، وذلك في إطار فرض رؤية أحادية على الأمموالشعوب، طرحتها القوى المهيمنة على أنها نهاية التاريخ وفقاً لأطروحة فوكاياما( تراجععنها بعد ذلك معبراً عن خيبة الأمل من النظام الذي نظّر له).. فكانت الحصيلة المأساويةللديمقراطية الرأسمالية الليبرالية المعاصرة وبكلّ أشكالها وأنواعها، التحول إلى“ديمقراطية أحادية مغلقة“: فهي ديمقراطية في الوصف إذ لم تأخذ من المنظومةالديمقراطية سوى لعبة الإنتخابات الشكلية فقط، وذلك عند كل موسم إنتخابي حيثيُعطى للشعب في يوم أو عدة أيام ((حق)) إختيار مرشحين وفق قنوات مؤطرة مسبقاًبآليات ضغط مادية ومعنوية.. وأحادية إقصائية تقتصر على تيار فكري سياسيوإقتصادي وقيمي مُهيمن واحد فقط.. ومغلقة على حزبين أو ثلاثة أو أكثر ضمن نفسالتيار يتناوبون على السلطة إدارة ومصالح وأهداف مشتركة، وإن تغيرت الوجوهوالوسائل.
والنموذج الأكثر تطبيقا بإمتياز لهذه الديمقراطية الأحادية المغلقة، هي الديمقراطيةالأمريكية، حيث تقتصر لعبة الإنتخابات الديمقراطية الشكلية أُحادياً على التيارالرأسمالي الليبرالي، ومغلقة على حزبين، الجمهوري والديمقراطي اللذان يحتكرانالسلطة بالتناوب. أما المواطن فعليه بالوسائل ((الديمقراطية)) أن يُحّيد إرادته ويبيعصوته لأحد الحزبين موسميا وفقاً لوسائل الضغط التي يخضع لها حتى في أدق تفاصيلحياته اليومية، حيث تحول إلى مجرد دافع للضرائب وممول للحملات الإنتخابية وآلة فيعجلة الإنتاج الرأسمالي التي لا يمكن لها أن تتوقف بحكم طبيعتها على مدار الساعة. وعلى صعيد العلاقات الدولية تبنت هذه الديمقراطية الأحادية المغلقة، أحادية أشدّ إنغلاقاًوإيلاماً عبر الهيمنة والإستغلال والإحتلال وإستخدام كلّ أشكال القوة الصلبة والناعمةلفرض الرؤية والقيم الغربية الرأسمالية والليبرالية بمعايير مزدوجة، كان ضحاياها مئاتالدول وملايين البشر، في إنتهاك فاضح للقانون الدولي والشرعية الدولية المتمثلة بشكلأساس بميثاق الأمم المتحدة.
وكذلك الأمر في بريطانيا حيث الديمقراطية الأحادية المغلقة على حزبي العمالوالمحافظين، وفي فرنسا وإن تعدّدت الأحزاب فضمن دائرة مغلقة للرؤية الأحادية. والدولالأوربية الأخرى تنتهج هي الأخرى نفس النمط الأحادي المغلق وإن تنوعت توصيفاتالتيار الليبرالي الرأسمالي إلى يمين ووسط ويسار بالإسم فقط ويمين الوسط ويساره،وإلى آخره من التوصيفات الأخرى التي تندرج جميعها ضمن الرؤية الديمقراطيةالرأسمالية الأحادية المغلقة، التي إنتقلت إلى المجتمع الدولي والقانون الدولي الذي شهدويشهد حملات ((ديمقراطية)) أحادية مغلقة لإعادة إنتاج الإستعمار الذي حرّمه ميثاقالأمم المتحدة نظرياً، وذلك تحت عناوين التدخل والإحتلال الإنساني والعقوبات الرادعةالتي تم تبريرها وفقاً لشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان المزيفة التي رفعها المحتلونأعلاما فوق رؤوسهم ليخدعوا بها الأمم والشعوب، التي تُذكّر بالشعار التقليدي الدائمللإستعمار( جئنا محررين لا فاتحين). وكانت موجات الضحايا لهذا المنحى الأحاديالمغلق كُثر: الشعوب الغربية المحكومة بهذه الأحادية الديمقراطية المغلقة، والأمم والشعوبالأخرى في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، التي تعرضت لعملية نهب وهدموتخريب ((ديمقراطية)) منظمة للكيانات والثروات والعقول والثقافات والحضارات، ماأعاد العالم إلى حالة الطبيعة حسب وصف هوبز(حرب الكل ضد الكل)، وكهوف وغاباتالتوحش والإستغلال والهيمنة والعنصرية في ظل غياب معايير القانون والحق والعدالةوإنسانية الإنسان.
ومن المفارقات التاريخية، أن هذه الديمقراطية الأحادية المغلقة أعادت إنتاج نفسها فيبعض الدول الضحايا، حيث سادت وتسود هذه الديمقراطية. ففي إيران مثلا، تنحصر لعبةالإنتخابات الديمقراطية بتيار ديني طائفي واحد ومغلقة على ما سمي بالمحافظينوالاصلاحيين الذين ينتمون لنفس التيار. وفي تركيا يتجه النظام في ظل سيطرة تيارالدورة الإنتخابية الواحدة، إلى نفس الديمقراطية الأحادية المغلقة، التي بدأت بتغييرالدستور إلى نمط أحادي وقمع كل ما هو خارج الأحادية المغلقة. وفي العراق تجسدّتالديمقراطية الأحادية المغلقة بمجموعة من الكتل، التي تحولت مع مرور الوقت إلىمنظومة تيار طائفي وعنصري واحد وإن تعدّدت المسميات والعناوين، مغلق على مجموعةمن الكتل العائلية والقرابية والمناطقية، تجمعها مصالح الإستبداد والفساد وثلاثيةالسلطة والمال والإقصاء. وغير ذلك الكثير من نماذج دول الديمقراطية الأحادية الرأسماليةالليبرالية المغلقة.
ماذا يعني كل هذا التوصيف لمآلات الديمقراطية.. يعني بكل بساطة إن مسارات الصراعالديمقراطي بين إرادة المواطنين وطغيان وإستبداد الحكام، قد آلت إلى إستبداد((ديمقراطي)) في الداخل تحت عناوين مستحدثة مزعومة للحق الدنيوي أو الحقالإلهي، وإستبداد وهيمنة على صعيد المجتمع الدولي.. وبالتالي فشل النظام الديمقراطينفسه، ما خلق أزمة البحث من جديد عن نظام يحمي إرادة وحقوق الشعوب في مواجهةالإستبداد الديمقراطي الأحادي المغلق، الذي أفسد ثمرة قرون طويلة من نضال الشعوبضد المستبدبن ومرجعيات إستبدادهم المزعومة، التي إستهانت بشريعة الله المقدسةوشريعة الإنسان المؤنسنة معا.
ولكن كيف؟ الإجابة ستحددها الأمم والشعوب ومفكريها وقواها الحية التي لم تستسلميوما للطغاة، التي وإن كانت تركن أحياناً إلى أعماق النفس بحثاً عن طاقات الإنطلاق منجديد، لكنها ستنتصر طال الزمان أم قصر. فالإنسان هو صانع ومحرك التاريخ الذي لم ولنينته تاريخه إستسلاما وإذعانا للمستبدين في الداخل والخارج.