أ.د عبد الستار الجميلي
“البدون” مصطلح أو تعبير ظهر في الأدبيات السياسية والقانونية الوطنية والدولية،في الوطن العربي والعالم، لتوصيف من لا يتمتعون بجنسية أي دولة لسبب أو آخر، فيالكويت أو غيرها من الدول الناشئة حديثا، وفي إطار عمليات الهجرة واللجوء وتشكيلالدول والكيانات التي شهدها العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وقد شهد العراق بعد الإحتلال الأمريكي في عام ٢٠٠٣ نوعا جديدا من “البدون“، حيثواجهت الساحة العراقية في ظل السيولة التي أعقبت الإحتلال، ظواهر سياسيةوإجتماعية لأشخاص يحملون الجنسية العراقية، لكنّهم تجردوا تماما من أيّ حسّ بفكرةالدولة وضروراتها ومحدداتها، ومن أي إنتماء وولاء وطني للعراق وشعبه، ومفرغين من أيإلتزام بالقيم والمبادئ التي تتصف بها الشخصية الإنسانية عادة، سوى مصالحهمالخاصة جدا، والأجندات الإقليمية والدولية التي تماهوا معها بطريقة أثارت إستغرابوأسئلة حتى أصحاب تلك الأجندات أنفسهم، بل وحتى سخريتهم.
وترافق مع هذا السلوك المفارق لأي إنتماء أو ولاء أو إلتزام، عملية تبرير منهجية منظمةلهذا السلوك، عبر إعطائه أبعادا تحررية بلا ضوابط، وديمقراطية بلا حدود، وتغييراً فيقيم ومفاهيم الوطنية والوطن والسياسة بحيث تصبح شفافة وواقعية أكثر مما يجب،وفرض قطع معرفي وسياسي وقيمي مع تراث الشعب العراقي وحركته الوطنية، الذي بُنيعلى منظومة أبعاد كاملة للوعي الوطني والسلوك القيمي والإلتزام بقضايا التحررالوطني والعربي والعالمي، تجسد كلّ ذلك التراث الوطني في تيارات فكرية وإجتماعيةوأحزاب سياسية وإتجاهات ومدارس ومنجزات أدبية وفنية، طيلة مرحلتي النظام الملكيوالجمهوري قبل الإحتلال.
لنجد أنفسنا خلال سنوات الإحتلال العجاف، بعد هذا القطع التراجيدي، أمام نماذجسياسية وإجتماعية ونفسية بلا وبــــ” دون” أبعاد، مفرغة من كل مضمون وطني وإلتزامقيمي، كأنها هبطت علينا من كوكب آخر، لتتفنن في الإستبداد((الديمقراطي)) المسلّحبتعددية في مراكز القوة والقرار، والفساد ((المشروع)) المنفلت من أية قيود قانونيةوأخلاقية، والتبعية ((الواقعية)) بلا حساب أو وَجل. ما وضع قواعد التحليل السياسيالتقليدي في مأزق عدم القدرة على وضع معطيات الساحة العراقية ضمن قراءات ومقارباتمفهومة لما جرى ويجري في هذا البلد المثقل بالتشوهات الجنينية في التاريخ، والقشرةالرقيقة القلقة للمعطى الجيو سياسي.
لذلك فإن سحب مفهوم” البدون“، من الحقل المعرفي للقانون الدولي والعلوم السياسيةوالقوانين الوطنية لتوصيف عديمي الجنسية، وتطبيقه على النماذج السياسيةوالإجتماعية والنفسية لبعض الشخصيات التي تجرَّدت من أيّ حس لفكرة الدولةوضروراتها، ومن أي إنتماء وطني للعراق وشعبه، ومن أي قيم ومبادئ شخصية، سوىخدمة مصالحهم الخاصة والأجندات الخارجية التي تماهوا معها إنتماءً وولاءً، يبدو أكثرإنطباقاً وتوصيفاً معرفياً وعلميا وعمليا لهذه النماذج، التي نشرت الفوضى والفسادوالإستبداد والكراهية، ومزّقت الهوية الوطنية الجامعة تحت أوهام الثنائيات المقيتة،وغياب اليقين، والقلق الذي بدد أمن المستقبل، وفتحت حدود العراق الكيانية والسياسيةلكل أنواع التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية..