أ.د عبد الستار الجميلي
تخضع الدول كشخص من أشخاص القانون الدولي العام في علاقاتها البينية لقواعدومنطق وضرورات تختلف عن محددات العلاقات في إطار المجتمع الوطني، حيث تسودالمجتمع الدولي، في إطار الأنظمة الدولية التي تعاقبت على تشكيل هيكل النظام وموازينالقوى فيه بحسب نوع النظام والقواعد التي تحكمه، تسوده واقعية صلبة مبنية علىالمصالح والقوة التي تحميها. حيث تبنى الدول سياستها الخارجية وعلاقتها الدولية علىتعظيم هذه المصالح والقوة التي تحميها، بينما تُشكل معايير القانون والحق والعدالةالتي تمتلئ بها الإتفاقيات الدولية، ظلّا هامشيا بيد الدول الضعيفة تحاجج به الجدرانالصماء داخل أروقة الأمم المتحدة، وتستصرخ به الضمير الإنساني الذي يعيش تراجيدياالصراع الأزلي بين الضرورة والانسانية، وبين الحتمية والحرية، وبين قوة الحق وحقالقوة.
وحين تلتقي المصالح فنكون أمام علاقات تعاونية، قد تتجسد في التحالفات.. وحينتتعارض فنكون أمام علاقات صراعية قد تصل إلى النزاع المسلح.
وبؤرة المصالح العليا للدولة هو وجودها الكياني، شعباً وأرضاً وسلطةً ذات سيادة.. وبؤرة الأمن الوطني أو القومي لأية دولة هو الحفاظ على هذا الوجود الكياني من مخاطرالتهديد الواقعة والمحتملة، والإستجابة السريعة لأيّ تحديات تفرضها تلك المخاطر.. ونوعالإستجابة يتوقف على مقدرة الدولة على تحريك مصادر القوة الصلبة أو الناعمة، بحسبنوع التحدي والإمكانيات والظروف الدولية المحيطة، المساعدة أو الكابحة.
والمخاطر التي تُهدد الوجود الكياني لأيّة دولة تستلزم بطبيعتها تحريك مصادر قوتهاالصلبة من أجل القضاء أو تحييد المخاطر تلك.. وتحريك مصادر القوة الصلبة تلك تستلزمهي الأخرى إدارة للعلاقات الدولية بطريقة داعمة لهذا التحريك في اللحظة المناسبة، لذلكتلجأ الدول إلى التحالفات الثنائية أو الجماعية (الإقليمية والدولية) من أجل تعظيم قوتهاومسار مناورتها وحركتها.
وأمام فوضى العلاقات الدولية التي سادت أغلب إن لم يكن جميع المراحل التاريخية التيمرّت بها البشرية، حاول المجتمع الدولي من خلال تشكيل المنظمات الدولية أنسنة هذهالعلاقات وإخضاعها لقواعد قانونية وحقوق وواجبات متبادلة، بهدف الوصول بالمجتمعالدولي الى حدّ أدنى من القبول المتبادل والتعايش المشترك والسلم والأمن الدوليين بينالأمم التي عانت ويلات ومآسي الحروب التي يعجز عنها الوصف. حيث تضمن ميثاقالأمم المتحدة في الفصلين السادس والسابع (م33- م51) قواعد قانونية محددة لمنع أوقمع أية حالات تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، عبر منظومة من التوصيات والقراراتلوضع حد للحالة الموصوفة، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات من بينها العقوباتالاقتصادية والتدخل المسلح من قبل المنظمة الدولية حصرا. لكن الميثاق وفي كل الأحوال لميبح لأية دولة، عظمى أو صغرى، أن تفرض ما تشاء من العقوبات على دولة أخرى، أو أنتعتدي عليها بالعدوان المسلح بما يهدد إستقلالها السياسي وسلامة أراضيها الإقليمية.
إلّا أن المجتمع الدولي وتحت ضغط الإستقطاب الأيديولوجي والأمني للحرب الباردة،وهيمنة القطبية الأحادية الأمريكية بعد الحرب الباردة المنفلتة من أية قيود قانونيةوإنسانية، دخل مرحلة فوضى أخرى أشد مما سبق، حيث نصّبت أمريكا من نفسها شرطياًللعالم، بهراوة ((ديمقراطية وإنسانية)) مدببة لتُقصي وتُعاقب وتُرهب وتحتل وتُغيرأنظمة ما تشاء من الدول، دون أي مسائلة أو حساب للعواقب أو إحترام لأبسط قواعدالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة الذي حرّم في المادتين(1، 2) التدخل في شؤون الدولالداخلية ومجالها الوطني المحجوز كما حرّم إستخدام القوة أو التهديد بها، إلاّ إستثناءفي حالتين: حالة الدفاع الشرعي وفق المادة(51)، وإجراءات القمع وفق الفصل السابع(م42).. وكانت الحجة التي دأبت الولايات المتحدة على ترديدها لتبرير عدوانهاوإحتلالها للدول (أفغانستان، العراق، ليبيا، وسورية كمثال) أنّها تواجه تهديداً لأمنهاالقومي من هذه الدول، مع أن جميع هذه الدول تبعد عن الولايات المتحدة عشرات الآلاف منالكيلو مترات، لكنّ الأمن القومي من وجهة نظر الرؤية الجيو سياسية الأمريكية هي أنالحدود الأمريكية تمتد على مدار الكرة الأرضية، وفق منطق الهيمنة الأحادية، وبالتاليأعطت لنفسها بدون وجه حق قانوني دولي التدخل متى تشاء؟ وكيفما تشاء؟ في شؤونالدول وإحتلالها وإغتصاب مواطنيها وسيادتها وثرواتها.
وحين تُفكر أيّ دولة خارج المنظومة التبعية الأمريكية ومجالها الحيوي المفترض(المأخوذ نهجاً وروحاً من المجال الحيوي النازي)، في الدفاع المشروع عن أمنها القومي،وعلى حدودها الدولية المهددة من دولة مجاورة مثلا وليس على بعد عشرات آلافالكيلومترات، ووفق قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فإن الغرب الأمريكيوالأوربي يتحرك تحت دعوى الشرعية الدولية التي لم يحترمها يوماً، ويُحرك آلته الحربيةوالنفسية والإعلامية وحشد معتمديه، وعينه الواحدة الأحادية ليصور للرأي العام العالميأنّ ما يجري هو عدوان وجرائم دولية بحق الديمقراطية وحقوق الإنسان، داعما مزاعمهعادة بأفلام هوليوود المزيفة، محرّما بذلك حقاً مشروعاً للآخرين، ومحللا لنفسه عدواناً غيرمشروع على الآخرين.
وكانت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، مثالا على هذه المعايير المزدوجةلحرام وحلال الولايات المتحدة، فقد ورطت (أي أمريكا) أوكرانيا وجعلت منها ميداناً ومنشعبها وقوداً، لتهديد الأمن القومي الروسي على حدود الدولة الروسية مباشرة، وفي بؤرةهذا الأمن: الوجود الكياني للدولة الروسية. وذلك عبر تجهيز الميدان الأوكراني وعدد منالدول المحيطة بروسيا بكل أنواع أسلحة الدمار الشامل: النووية والبيولوجية والكيماوية،من أجل فرض أمر واقع على روسيا وإجهاض مشاريع صعودها المتسارع التي غيّرت هيكلالنظام الدولي في وقت قياسي من القطبية الأحادية إلى تعددية قطبية وضعت روسياوالصين على قمة هذه القطبية المتعددة الجديدة.. وإزاء هذا التهديد الوجودي الكيانيالمجاور لحدود روسيا مباشرة، سارعت روسيا إلى توجيه ضربة إستراتيجية إستباقيةأجهضت ما كانت تخطط له أمريكا، ورسمت على أرض أوكرانيا نفسها ملامح نظام عالميجديد مختلف تماما، بمعايير القانون الدولي الموضوعية ومحورها السلم والأمن والتعاونالدولي والمساواة والندية بين بني البشر جميعا، مختلف عن النظام الدولي الجديد الذيبشّر به، بهيمنة الدم والعدوان والهيمنة، الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بعد إنتهاءالحرب الباردة وحرب تحرير الكويت في عام 1991.
لكنمّا الضربة الإستباقية الروسية تختلف شكلا وموضوعا وشرعية، عن الضرباتالإستباقية الأمريكية، فروسيا كانت تدافع عن أمنها القومي على حدودها الدولية فيمواجهة خطر حال مباشر من دولة شقيقة مجاورة ترتبط معها بوشائج تاريخية وجغرافيةوإجتماعية وإنسانية ومصالح مشتركة أقوى بكثير جداً من أية علاقة لأوكرانيا معالولايات المتحدة، التي دفعتها وورطتها في علاقة عداء ونزاع مسلح غير متكافئ دفعتثمنه غاليا مادياً ومعنوياً، وحاضرا ومستقبلاً.. بينما كانت أمريكا ومازالت تمارسالضربات الإستباقية تحت حجج الدفاع عن أمنها القومي على بعد عشرات آلافالكيلومترات في مواجهة دول، وبغض النظر عن الأنظمة التي تحكمها، تزعم أنّها تُشكلتهديدا للأمن القومي الأمريكي.. لذلك كانت الضربات الإستباقية الأمريكية التي تمّالتنظير لها بعد إنتهاء الحرب الباردة خصوصاً، مثار رفض وإدانة وخلافات شديدة فيإطار الفقه القانوني الدولي، حتى داخل الولايات المتحدة والدول الأوربية