خالد خضير الصالحي – كاتب وناقد عراقي
التشاكل الصوري، بجمع عناصر من الصعب جمعُها، فكان ذلك الجمعُ (القسري) يخلق الانزياحَ الاستعاري الذي هو جوهر للجمالي كما هو جوهر للشعرية، وهي الية استخدمها السورياليون: سلفادور دالي، وماكس ارنست، فيتحقق في تجربة هاشم تايه من خلال ثلاثة (قوى محركة) في تجربته هي: أولا، تواشج (القوة والبساطة) في التكوين الخطي، وثانيا، فاعلية المادة المستخدمة في كل مرحلة من مراحل تجربته، وثالثا، فاعلية المحرك السيكولوجي الذي هو محرك دلالي وان تنافذ بشكل أو باخر مع المحركات المادية، وقد وجدت ان معرضه هذا جاء تكريسا ليس فقط لمادة مضى عليه معها سنوات طويلة فكان يطورها في كل معرض جديد يقيمه، وإنما كانت أيضا تكريسا لذات المحركات السابقة.. فما زالت البنية الكاليغرافية مهيمنة على أعماله الآن كما كانت في أعمال الألوان الزيتية التي كان يرسمها سابقا، وفي التخطيطات التي مثلت السلف الأقدم لإبداعاته اللاحقة، وكانت بنيتها الشكلية (تتخندق) مع تلك الأعمال التخطيطية، بينما تتخندق الآن دلاليا بشكل خطّيّ في تشكيل سردية الموضوع، حيث يجد المتلقي نفسه مضطرا إلى تتبع (خط) سرديّ يبنيه الفنان بناء (محكما)، فيدخل السرد واضحا في بنية العمل، ويتحول الخط من طبيعته المادية إلى طبيعة سردية، فكان، فيما سبق، يغلق الأشكال، ويردم الفراغات، وهو الآن وهو يفعل ذلك يقوم بها سرديا..
ان المحركات السابقة لتجاربه (النحتية) مازالت فاعلة حيث: أولا، مازالت البساطة والقوة التي كان يجلها الرسام الشاعر (وليم بليك) فاعلةً هنا، فكان هاشم تايه يتبع البساطة حينما يتخلص من الشوائب الزائدة في بناء لوحته عبر (خط) سردي لا انقطاع فيه، خط ارسطوطاليسي: من البداية مرورا بالوسط وانتهاء بالنهاية، هو زمن متعاقب، مستمر.
ثانيا، مازالت المقاربة السيكولوجية صالحة كمقاربة حيث تؤكد شخصياته بانها ترميزات لمظاهر داخلية من شخصية الرسام مشفّرة عبر كائنات متعددة، ومتناقضة في مواقفها، يبثها بشكل يغطي مساحة العمل.. يستلها من مستوى غائر، مطمور في أعماق النفس الإنسانية، ما يجعل كل ما يقال عنها محض افتراضات قد تكون أوهمتنا، أو أوهمنا أنفسنا بها، لكن لا ضير، ما دامت تفتح لنا مسرباً مضيئاً لهذه التجربة.
ثالثا، ظلت (سلطة المادة) الجوهر الأكثر فاعلية في تجربة هاشم تايه؛ فقد كان هذا الرسام قد تخلى عن مواده التقليدية: الحبر الصيني ،والألوان، وتخلى عن الأدوات التقليدية: ريشة الحبر الصيني، وفرشاة الرسم، وأقلام الحبر الجاف الملون، ولكنه واصل الاشتغال على الخامات اللونية الاستثنائية التي تذكرنا بتجربة الألوان العطارية (=النباتية) التي كان يجمّعها من مصادر نباتية متنوعة، ليعود إلى تجربة الورق المقوى في معرضه هذا عائدا إلى العلب الورقية (الكارتون)، والأسلاك، والخيوط، والقناني البلاستيكية، وعجائن يصنعها من الورق المقوى أو من مواد أخرى، كلها تشكل عنده مادة استثنائية يحاول بها تطوير تقنياته في: الخرق، والحرق، والقص، واللصق، والتمزيق، والتراكم، والحك، والشطب، وسوى ذلك من التجارب التقنية، وكنا صنفنا تلك المحاولات بانها تقع ضمن ما يمكن ان نسميه (بالتشكيل الفقير)، مستثمرا كل مادة في اقصى ما تقدمه من قدرة تعبيرية؛ فكانت طبيعة المادة المستخدمة تلقي بثقلها على العمل، فكان العمل يأخذ استراتيجا مختلفا في كل مادة مستخدمة في إنجاز العمل؛ وبما يلائم الحدود التعبيرية لكل مادة.
لقد كان هاشم تايه ، في تخطيطاته السابقة، يستثمر نتائج بحثه النهائية في أعمال الألوان النباتية (العطارية) السابقة أيضا، فيختار كائناته التي خلقتها الصدفة، لكنه يتبع إستراتيجا مختلفا هذه المرة بما يلائم مادة الحبر، فلا يتبقى من تلك الكائنات سوى خطوطها الخارجية، وبعض اللمسات الظلـّية التي يعتقدها الفنان مهمة لاكتمال خلق أشكاله، أي ان التخطيطات فقدت صفة الصدفة حيث صار لها نموذج سابق كان يتبعه الرسام فيما مضى، وهو الأمر ذاته الذي يحدث عندما انجز أشكاله بالورق الذي فقد صفة الصدفة وصار له مثال سابق، فكانت أعمال الورق المقوى تبنى بوعي وقصدية وتنجز ببطئ وتخطيط مسبق..
يصف هربرت ريد الريليفات والبنائيات النحتية التجميعية بأنها “تتأرجح بغموض بين حرفتي الرسم والنحت” (هربرت ريد، النحت الحديث .. تاريخ موجز، بغداد 1994، ط؟، ص 5)، فهو يحتار في تجنيسها ان كانت تنتمي إلى الرسم أو النحت، إلا أنها براينا تشتغل في مناطق (تخوم الرسم-النحت)؛ وهو امر يذكرنا بتعريف للفلسفة اطلقه برتراند رسل في كتابه (حكمة الغرب) باعتبارها الحقل الذي يبحث في مناطق التخوم ما بين العلوم المختلفة؛ وان افتراض وجود تخوم للفنون المختلفة، ولفن الرسم تحديدا باتجاه مختلف أنماط الفنون الأخرى يفترض وجود تخوم بينه وبين الفنون المحايثة القريبة كالخط والتصميم مثلا؛ وهي مماثلة لتلك التي بينه وبين النحت، بما يخلق من (حركة) ناشئة، ومن تواشج فضائيّ (داخل-خارج) المنحوتة، فضاء مفتوح خارج المنحوتة، وفضاء مغلق (داخل) المنحوتة، فيتم إعادة تأسيس علاقات الفضاء نتيجة الافتقار للمادة الصلدة التي كانت في ما مضى جوهر النحت، ويبدو ان الحاجة إلى تغيير علاقات الفضاء كمعادل لردم الفضاء هو نزوع أصيل في هذا النمط من المنحوتات، نتيجة البناء النصبي لهذه المنحوتات فهي في غالبيتها توحي بانها مشاريع نصب ضخمة مقدر لها ان تحتل مساحات عامة يتعايش الناس معها بشكل تلقائي ويومي، وتنتظر كذلك إعادة إنتاجها بمادة مقاومة للزمن هي البرونز، فلنتخيل أعمال هاشم تايه الكارتونية وقد خلعت معطفها الكارتوني وتدثرت بالبرونز الصلب، فأية صلابة مادية تلك؟، واي خيال مادي سيتحقق، وربما سيريح ذلك غاستون باشلار اكثر من غيره؛ وهو مصدوم، من افتقار الجمال لما يسميه (العلة المادية)؛ كما جاء في كتابه (الماء والاحلام).