شهادتي عن تحية الخطيب

شهادتي عن تحية الخطيب

د. عبد الرضا عليّ
ـــــــــــــــ
ليست مبالغةً إن قلتُ : إنَّ تحيَّة الخطيب اكتسبتْ ثقافةً واسعةً على نحوٍ يجعلني موقناً أنَّ مثيلاتها المعاصرات ممَّن أدركتهُنَّ حرفةُ الأدبِ قليلاتٌ، فقد وهبها اللهُ شغفاً بالقراءةِ والاطلاعِ ، وتتبّعِ الجمالِ منذُ أن كانت في مرحلة الدراسة الابتدائيّة.ولعلَّ ذلكَ عائدٌ إلى أنَّها نشأتْ في ظلِّ والدٍ شاعر، وأُسرةٍ مثقَّفة، ومكتبةٍ عامرةٍ بالأسفار الإبداعيّةِ العربيَّة، والأجنبيّة المترجمة.
وإذا ما التقيتَها، وسألتَها عمَّا قرأتْهُ من الأدبِ العربيّ، أو المترجم، أدركتَ حجمَ اطِّلاعِها، ورصيدها المعرفيّ الذي كوَّنَ ثقافتَها الموسوعيَّةَ، وذائقتَها الأدبيّةَ التي تبدَّتْ في ما كتبتْ من إبداعٍ سرديٍّ، أو نصوصٍ مفتوحة، وإن كان الذي ظهر للنور مطبوعاً قليلا⁽¹⁾.
حاورتُها مراراً دون أنْ أُعلمَها غايتي من المحاورة، وناقشتُها في بعضِ ما كتبتْ من وميضٍ دال (سأذكرُ بعضاً من أمثلته لاحقاً)، ونصوصٍ نثريّة، فعلمتُ منها أنَّها كانت من رائداتِ كتابةِ النصوص المفتوحة التي سُمِّيتْ بـ (( قصائد النثر)) منذُ أوائل سبعينيَّاتِ القرنِ الماضي،ولها فيها مساهمات عديدة.
*****
بدأت أديبتُنا الطبيبةُ تحيّة الخطيب أولى خطواتِ بنائها المعرفيِّ بأدبِ المهجر، وتأثَّرتْ جداً(ولا تزال) بالكبيرينِ : جبران خليل جبران( 1883-1931م) وإيليا أبي ماضي( 1889-1957م)، ثمَّ عكفتْ على قراءةِ إنجازات الأدباء العراقيين، والعرب، وما كان متاحاً من الأدب المترجم.
فمن العراقيين المعاصرين استهواها الجواهري، وبدر شاكر السيّاب، وعبد الرزاق عبد الواحد، ومن العرب بشارة الخوري من لبنان( 1885-1968م)، و أبو القاسم الشابّي( 1909-1934م) من تونس، ومن ألأدب العالمي الروسي أحبّتْ كتابات: بوشكين، وجيكوف، ودستويفسكي،بينما أحبَّتْ من الأدب الفرنسي كتابات: بلزاك، وفلوبير، وزولا، وأركون، وسارتر، وسيمون دي بوفوار، وكامي، وشارل بودلير.
وحين قرأت الأدبَ الألماني المترجم أُعجبتْ بكتابات: غوته، وهاينه، وبرشت…. أمَّا الأدب الانكليزي، فقد أعجبتْ بالكثيرين من كتّابه، لاسيّما: شكسبير،وأوسكار وايلد، وكولن ولسن،وبرنادشو، والأخوات برونتي، ولم يفتْها من الهند طاغورها، ولا إقبال باكستان، ولا شاعر إيران المتصوّف سعدي الشيرازي، ولا الأمريكي والت ويتمان، ولا شاعر إسبانيا المعروف لوركا،ولا التشيلي بابلو نيرودا ،وقد توقَّفتْ كثيراً عند الشاعر اليوناني قسطنطين كفافي.
*****
أما الأسفارُ الإبداعيّةُ التي أحبَّـتْها كثيراً فهي: رواية الجزائري مالك حداد((التلميذة والدرس))،و((بريد الجنوب)) و(( وقوت الأرض)) للفرنسيينِ: أكسوبري، وأندري جيد، و((ذهب مع الريح)) للكاتبة الأميركيّة مارغريت ميتشل.

كما أخبرتني أنَّها قرأتِ الكثيرَ من الشعر الجاهلي،والإسلامي،والعباسي لاسيَّما المتنبي،وابن زريق البغدادي، وأُعجبتْ بشاعر الخوارج عمران بن حطَّان، والشاعر الأندلسي ابن زيدون.
ومن يطَّلع على اكتسابِها الثقافي،والمعرفي المتنوّع، وما هضمته ذائقتُها، أو تمثَّلته في وعيها،وخزنته في أعماقها من تراثٍ إبداعيٍّ، يجدُ أنَّ مقولةَ الشاعر الفرنسي الفيلسوف بول فاليري(1871-1945م) : [[ لاشيء أدعى إلى إبراز أصالةِ الكاتب، وشخصيَّتِهِ من أن يتغذّى بآراءِ الآخَرين،فما الليثُ إلاّّ عدة خرافٍ مهضومة]] تنطبق عليها انطباقَ الجفنِ على تمامِ العين، لأنَّها هي التي أعلنتْ عن تلكَ الأصالةِ حينَ ذكرتْ رموزَ الإبداعِ الذين أثَّروا فيها، وأشارتْ إلى منجزاتهم الفكريّة التي أحبَّتها،وأثَّرت في تفكيرها، وحياتها، وهي : زرادشت نيتشه، ودون كيشوت سرفانتس، ونسبيَّة أنشتاين.
وهؤلاء الثلاثة : نيتشه (1844-1900م) ، وسرفانتس ( 1547-1616م) ، وأنشتاين (1879-1955م) هم الذين يشكلون أثافي تفكيرها، وهي ما زالت تتذكّرهم، فضلاً عن أنَّها تأثَّرت بالفلسفة الديالكتيكيّة، وآراء [[ أرنولد توينبي ]] المعمّقة في تاريخ البشريّة من حيث المفهوم المادي للتاريخ.

*****

الدكتورة تحيّة الخطيب المولودة في مدينة البصرة الفيحاء سنة ( 1943م) من بيتٍ شعريٍّ⁽²⁾، فوالدُها الراحل عبد الكريم محمّد الخطيب(1907-1986م)كان شاعراً، كما أنَّ جدَّها لأبيها الراحل محمد الخطيب كان شاعراً كذلك، أمَّا أشقاؤها فقد كانوا أدباء لهم كتب مطبوعة، فضلاً عن أنَّ زوجها المرحوم عبد الكريم درويش الخطيب(1926-2014م) كان هو الآخر شاعراً سامقاً.
أمَّا فسفتُها في الحياةِ بوصفها طبيبةً فتتلخّصُ في قولها:
(( إنَّ المعرفةَ بكلِّ أنواعِها: العلميّة،والأدبيَّةِ وحدة واحدة لا تتجزَّأُ، وهي كما الإنسان لا يمكنُ تفريعها، فالإنسانُ وحدةٌ متجانسة، يتكاملُ جسدهُ مع عقلهِ وروحهِ، ويُعالجُ من هذا المنطق، فينبغي:أنْ ننصتَ إليه جيّداً،…نكسب ثقته،…نلمس موطنَ الألم برقَّةٍ، ونتحدَّث معه بمودَّة. فكسبُ ثقةِ المريض مهم جدّاً،لأنَّ إيمانَهُ بالعلاجِ يقوّي فعاليّةَ ذلك العلاج،ويجعله متمسِّكاً به، وبمواعيدِ تناولهِ، وهكذا يتمُّ شفاؤه.
إنَّ %70 من الأمراضِ منشؤها نفسي، و%30 المتبقيّة تتفاعلُ مع حالةِ المريضِ النفسيَّة سلباً، وإيجاباً .))
*****
تميل الدكتورة تحيّة الخطيب إلى كتابة الإبداع السردي، وكتابة النصوص النثريّة المفتوحة( قصائد النثر) التي لا تخلو من شعريَّةِ في الأداءِ، لكنَّها تكتبُ النصوصَ الوامضةَ أيضاً على نحوٍ مدهشٍ، وهذه النصوص الوامضة تتميَّزُ باللمحةِ الموجزةِ، والعبارةِ المركَّزةِ، والوقدةِ الدَّالةِ، وهي من الوميضِ الواضحِ الذي لا يحتملُ التأويلِ في أكثرهِ، لذا فإنَّ تأويلَ تلك النصوص سيعمدُ إلى التنطُّعِ،وهو تكلّفٌ لا موجبَ له ، وهذه أمثلةٌ من نصوصِها الوامضةِ الموجزةِ المدهشة :
1- مصالحة
بِـكَ
أرضتْـني الدنيـا
بلْ…
أنصفتْـني !
◉◉◉

2- إيماضٌ
أومضتَ في ديجوري
أنرتَ جوانبي الخفيٌة،
فبانَ الحزنُ الدفين.
◉◉◉

3- كلماتٌ معطَّرة
عندما أسمعُ صوتَك
أشمُّ رائحةً زكيةً
كالمسكِ،، والعنبرِ…
بل احلى !
هلاّ أخبرتَـني باللهِ عليك :
كيفَ تعطرُ الكلمات. ؟؟؟
◉◉◉

4- كيف …؟
في الليلِ السـاجي…
في الصمتِ المطبق…
أسمعُ صوتَـك ؟؟؟
فكيـف ؟.
◉◉◉

5- الشلال
أنتَ شلالٌ …
دفقُهُ مموسقٌ عذبٌ …
أختبئُ خلفَ ستارةِ مائهِ المنثال…
وأنتظرُ طيفكَ .
◉◉◉

6- ارتشاف
وأنا ارتشفُ الماءَ مذابا
فيه دواءٌ مرٌّ
كنتُ أفكـرُ فيـك،
فوجدتُ الماءَ صارَ شديدَ الحلاوة
فارتشفتُهُ…
آه …إرتشفتُـك !
◉◉◉

7- حديثُ عكازٍ
قال : سأحضرُ يوماً أنا وعكازي
قال عكازُها منفعلاً:
فديتُ ذلك العكاز…
دعنا نلتقِ يا عكازَهُ فنتسامر،
فنحن كلانا
نختزنُ الموسيقى
ونحفظ ُالأشعار.
سافرنا مع صاحبينا…
شاهدنا نصفَ العالم
وتأدبنا بأدبِهما،
وسوف ننصِتُ إليهما
فرحينَ…صامتين
ترى في أيةِ لحظةٍ مباركة تصلُ
أيُّها العكازُ ؟

وبعدُ : فهذه الشهادةُ العجلى في الأديبة الدكتورة تحيَّة الخطيب ليست سوى تحيَّةٍ لها، ورجاء في أن يلبسها اللهُ تعالى ثوباً من حريرِ العافية لا يبلى أبداً، كي تعودَ إلى قرائها، ومحبِّيها، وهي ترفلُ بشفاءٍ تام، ومنجزٍ جميلٍ يخالفُ السائد.
مع رجائنا لأغصانِها بثمرٍ يشبعُنا إبداعاً .

إحـــــالات
ــــــــ

(1) لها كتابان مطبوعان : الأول: ((حقيبة الروح))، مط: عشتار، بغداد، 1987م، وهو مجموعة نصوص نثريّة، والثاني ((عنقُ الزجاجة)) مط: العدالة، 2018م، وهو قصّة طويلة، ولها العديد من الكتب المخطوطة التي تنتظرُ النشر،منها :
• الشوق الوحشي… مجموعة شعريّة،
• سطور من ماء… مجموعة قصصيّة.
• السيّاب مريضاً… .مجموعة قصصيّة.
• ملوك الصمت… ..مجموعة قصصيّة.
(2) يُعرّفُ ابنُ رشيق القيرواني البيت الشعري بقوله : (( وذو البيت من عمَّ الأمر جميع أهل بيتهِ،أو أكثرهم )) العمدة،2/308.

(Visited 5 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *