د. جاسم محمد جسام _ كاتب واكاديمي عراقي
توطئة :
تعد القصيدة ثمرة احتدام طويل، انها المرحلة الأخيرة من تجارب حياتيه يجب أن يعيشها الشاعر، واذا ما قطع هذا الاحترام طارئ ما، أفسد التجربة كلها، ونغص على الشاعر عزلته التي يغتنمها ليجمع المعاني ويبني الصور، لقد صار الشعراء اليوم مصلوبين على حساباتهم في فيسبوك، اذ يعيش العالم لحظة تأريخيه حرجة مع انتشار جائحة كورونا، لحظة تضع حضارتنا الحديثة وما بعدها أمام اسئلة شائكة حول جدوى التقدم العلمي والتكنلوجي. فمن المعروف ان الشعر مرآة عاكسة لكل شيء في الحياة من العوالم السرية في باطن الإنسان إلى الكوارث الكبرى ومنها انتشار وباء كورونا على مستوى العالم، وهذا ما انعكس بشكل كبير في مدونة الشعرية التي باتت تحملها إلى القارئ منصات التواصل الاجتماعي. وهنا لابد من طرح سؤال منطقي وهو: هل ان جائحة كورونا عزلة شاعر ام عزلة شعر؟ فمن الضروري ونحن نبحث عن إجابات شافيه لسؤالنا هذا، لابد من تشخيص دقيق لواقع المثقف العراقي متمثلا بالشاعر، وأن نظرة متفحصة لما يجري اليوم بعد هذه الكارثة الصحية في العالم، تجعلنا أمام أمر هام وهو هل استطاعت الثقافة ان تستوعب تلك الظروف القاهرة في مجتمعنا، وهل استطاع المثقف العربي والعراقي بوجه الخصوص ان يرتفع بالثقافة ويكتسب ما يمكنه من التلاؤم مع محيطه، عليه أن يعاين بوعي ما يدور حوله، وينحاز بقوة ووضوح إلى جانب الإنسان، ويدافع عنه وعن مصيره، والواقع ان الشعر والشاعر في مجتمعنا لا قبل له ان يكون منعزلا عن محيطه الاجتماعي وهموم ناسه على الاقل، فهو أمام مهمة وطنية جليلة املتها عليه ثقافته ووعيه بما يحصل ويجري من حوله تجعله قادرا على رؤية الحياة وهي اكثر جمالا.
ان ما ينبغي لنا أن نتوقف عنده ونتأمله هو موقف الشعر إزاء هذه الازمه التي عصفت بل عالم اجمع، فعظمة الشاعر تكمن اساسا في حضوره الفاعل بمجتمع ما عبر النص المدافع عن الحياة والانسان، وليس المغامرة في ضبابية الأفكار او الرؤى الخيالية التي لا تجد لها تا ثيرا الا اذا ما طبقت على أرض الواقع، واقع مخصوص بسمات معينه، وهذا ما يشكل الوعي الموضوعي لثقافة الشعر المتبصرة والقارئة لمشكلات المجتمع، لأن هذا التمثل بالضرورة سوف يؤدي إلى إيجاد حلول لهذه المشكلات، وبالتالي فأن هذه القراءة الدقيقة والموضوعية عبر النص الشعري وبصوت المثقف الواعي بالتأكيد ستولد في ذاته بعدين خاصا وعاما، فأنه يحفظ له تميزه الثقافي وتعاليه الأخلاقي، وحريته في اختيار أدوات التشخيص السليم الواقع المجتمع ويعاني من أزمات وان كانت صحية، ويعمق من إيمانه بقدرته وامكاناته الخلاقة.
اما على المستوى العام فأنه يحصن الثقافة من مزالق التشتت والتجريد النظري الغائم، ويفتح افاقا واسعة لهكذا قراءات واقعية لكل ما يعترض المجتمعات من معاناة، وبهذا يمكن الاطمئنان إلى ما يهتدي اليه المثقف من تفسير لطبيعة المجتمع وأزماته، واذا كنا نريد التحدث عن العلاقة الإشكالية بين المثقف شاعرا والسلطة بمؤسساتها التي تعنى بادارة البلد ومشاكلة، فإننا سوف نؤشر لإشكاليه اكبر، قائمة على الاضطراب في التعامل مع الملف الثقافي وقدرته على أن يشكل إحدى اهم المحفزات للنهوض بالواقع الاجتماعي والصحي للإنسان في اي بلد، لكونها تتجاهل إمكانية القبول بالأخر او دفع سياستها لأنماط من عدم وضوح الرؤية في التعامل مع حجم وشكل الكارثة أو الازمه التي تحل بالبلاد، اي بمعنى ان الثقافة المحلية قد حاولت أداء دورها إزاء هذه الازمه (جائحه كورونا)، بينما الثقافة الرسمية فإننا مازلنا ننتظر من ان تؤدي دورها بالشكل الامثل من خلال مؤسساتها الثقافية والاعلامية في الكثير من أنماط الإنتاج الفكري.
فليس إضافة جديدة القول بأن كل مراحل التحول في مسارات المجتمع هي بحاجة إلى جهد استثنائي تنهض به النخب باعتبارها صاحبة امتياز معرفي وقدرة على اقتراح البدائل وتصور استراتيجيات النهوض بالمجتمع ومعالجة المشكلات، ومن ثم هي المقدمة الفلسفية والعقلية لكل محاولة جريئة لتذليل الصعوبات ولكل رؤية الصلاحية تخص المجتمع، فالمنظومة الثقافية بشكلها العام هي التي تُعنى بتأسيس نموذج التوازن الديناميكي في بنية المجتمع ، فمما لا شك فيه أن الاهتمام بالثقافة المتجانسة يعكس في الواقع مستوى بلوغ الوعي النظري وإدراك قيمة البدائل العقلانية والإصلاحية لأي مشكلة تواجه مجتمعنا .
الفعل الثقافي وازمة كورونا :
لعلنا ونحن نتحدث عن أزمة جائحة كورونا من زاوية انسانية ترتبط بالمستلزمات الوقائية والاقتصادية و الحياة اليومية للإنسان ، ومنه يمكن أن تتمظهر علاقة الأدب بالجائحة وتبعاتها ، وارتباطها على مر التأريخ بظهور ما يعرف بأدب الأزمات ، والذي يستقى منها مادته ، وهو بطريقة او أخرى شاهد عيان على الواقعة أو موثقاً لها فيما بعد ، وعليه يمكن القول بأن هناك علاقة نفسية حياتية تجمع المنتج الأدبي بمحيطه .
أن تعطيل الحياة بسبب هذه الجائحة دفع بالفعل الثقافي على اختلافه ان يتم من خلال منصات التواصل الاجتماعي بشكله الفردي في ظل غياب مناخ عام يشجع المبادرة الفردية ويضمن حق المجموعات في الاسهام المستقل ، وهذا ما يجعلنا نجزم أن هذا التواصل لا يتجاوز كونه محاولة اجرائية لتحديد فاصل زمني ، فهي عبارة عن محاولات خروج الفاعلين الثقافيين من تحت ركام الكارثة و الوصول إلى الناس بطريقة فردية .
لقد خلق الوضع الجديد حالة استثنائية للتعبير عن أزمة حقيقية يمر بها الإنسان مما جعلنا نعيد النظر في طرائق دعم الثقافة والدفع نحو اللامركزية الثقافية الفعلية بما يتلاءم والظرف الذي يمر به المثقف و متابعيه على حد سواء من خلال الاستثمار الثقافي لبث الطاقة الإيجابية داخل الفرد ومنحه فرصة الالفات من أزمة صارت تضرب كل مناحي الحياة ، فليس من السهل على المثقف أن يستعيد دوره في التأثير ، وتعويض دور المؤسسات الثقافية والانخراط الفعلي في توجيه الناس بما يضمن فعلاً ثقافياً موازياً لهذه الأزمة ، ولأن جميع ردود الافعال و تمثلاتها الاجتماعية تتطلب النظرة العملية و النقدية للمشهد الحيائي والتي تتخذ مسارين هما :
أولاً : أن الانخراط الفعلي في توجيه الشارع من أجل أن يتشكل سلوكاً حقيقياً يحمي الناس ويدفع باتجاه ثقافة صحية تتمظهر من خلال الممارسات الحقيقية اليومية ، اذ نحتاج الى بث الوعي الجمعي بمخاطر الأزمة والعمل على تجاوزها بشكل يضمن سلامة الجميع .
ثانياً : أصبحنا بحاجة ماسة بعد كل هذه الظروف القاهرة إلى مقاربة جديدة حول دور المثقف في المجتمع ، وهذه المقاربة الثقافية النقدية اساسية لضمان اعادة مناخ الثقة بين المثقف والشعب .
فقد حان الوقت بشكل واضح أن نتحدث عن المثقف العضوي في ظل ما يدور من أزمات وكوارث ومنها جائحة كورونا ، لقد مثلت هذه الأزمات كابوساً ملازماً لاقلام هؤلاء المثقفين ، نتيجه ما زرعته من ثقافة الرعب والخوف من المجهول .
وبهذا نرى أن دور المثقف بدأ يتعاظم واصبح دوراً توجيهياً للاسهام في تأسيس منظومة فكرية و ثقافية جديدة تدفع باتجاه تجاوز الأزمة بكل أبعادها.
ولعل شغف الشاعر في الحياة وإحساسه بالجمال يساوي من حيث الدرجة تعطشه لمعانقة المطلق وتوقه اللامتناهي لمعرفة أسرار الأشياء والوصول إلى المقدمة من خلال التأمل لما يجري من حوله من أحداث عبر الإحساس بمفاهيم وحقائق ثابتة لا يتجاوز مفاهيم اليقين والبداهة والتطابق بين العقل و نفسه في مستوى ما هو صوري ، ومع الواقع في مستوى ما هو مادي ، فالتفكير الفلسفي الحاذق هو الذي يهتم بالخبرة الجمالية لذاتها ، وكأن القصيدة عملية فنية يشحذ فيها الشاعر كل طاقاته الذهنية والنفسية في رسمه للاشياء التي يقولها شعراً ، تصديقاً لمقولة الشاعر الفرنسي بول كلوديل ( يرى الأشياء كما هي و يقولها شعراً) (١).
وعليه فان أي فن ومنه الشعر ( لا يستحث وعي طبقة محددة فحسب وانما وعي الكائنات البشرية من حيث أنها تنتمي إلى الحياة ) . (٢)
وكأننا ننظر للشعر على أنه وسيطاً رمزياً وبين الأشياء و أحداثه الكبرى ، وأداة للتعبير عن مكنونات الذات وتقلباتها ، فالشاعر كريم شغيدل في قصيدته ( اللجوء إلى عالم آخر )و المنشورة على صفحته الشخصية وهو يتحدث عن ضياع العالم بسبب تعرضه لهجمات من قبل مرض فتاك داعياً إلى المصالحة معه لكي تستمر الحياة فيقول :
لنعقد صلحاً ابدياً مع الوجود
نتصالح مع الجراثيم
و الفيروسات
والبكتيريا
تلك الكائنات التي تعيش في الغابات أجسادنا بجدية وهدوء ..(٣)
لذلك فالمثقفون مدعوون دائما لبث روح الانتصار ودعوة الناس على الوقوف بوجه الخطر والتخلص منه ، وكأن الشاعر أراد أن يوجه دعوته هذه لكل الناس من أجل أن يتوحدوا بوجه هذه الازمة :
لعل الله يرانا
بمكروسكوب سماوي فسيح
لعله يدرك أننا في محنة
ونطلب اللجوء إلى عالم آخر
تسهر فيه الملائكة
لكنس فضلاتنا
كما المضادات الحيوية
التي تكنس جثث
الفيروسات
والجراثيم
والبكتيريا .(٤)
فكلمة مثقف ليست صفة تضاف إلى الفرد بقدر ما هي دور يقوم به في المجتمع ، وهذا الدور لا يتحدد في نطاق ضيق ، انما يتحدد من حيث قدرته على اكتشاف المشكلات وإيجاد الحلول لها .
فمن المهم جدا أن يكون الخطاب الموجه وفق رؤية استشرافية كفيلة بتحقيق أهدافها بعيداً عن المزايدات الفكرية ، وبهذا يمكننا وضع ايدينا على مكمن الداء والوصول إلى ما هو مطلوب من خطابنا الثقافي ازاء ازمة كبيرة وعاصفة اجتاحت مجتمعنا حيث يقدم لنا الشاعر القصيدة كحركة إبداعية وسعت حدود الشعر يستهدف من وراءها رسم مشاهد واقعية انطلاقاً من تصوير الطرح الدائر في معركة الإنسان مع ذاته واحتجاجه مادياً و روحياً على الظلم الذي لحق به ، ولعل الشاعر عادل غضبان الناصري في قصيدته ( نزهة للسيد كورونا ) يظهر أكثر واقعية في وصف ما أصاب العالم من مصيبة كبرى فيقول :
في زحمة قلق لأصابعنا المرتعشة ننتظر قدوم شبح
تشرع له بوابات المدن الشاسعة وتطفئ انوار ايقوناتها
اسمه أجمل من غنج أنثى
لكنه فحل دواب بذي قرنين
اشبه مايكون بكلكامش
لا يأبه فتتقهقر أمامه خمبابا
بحثاً عن ذات في عشب فانٍ
ينطح أنفاس الأحياء …(٥)
فتتساقط مدن وتهوى بسبب احتجاج اجتياح كورونا لها وكأنها أقرت بنظام التسليم والسيطرة و بما يجعلها بحالة من التهميش والانزواء رغم ما تمتلكه من قدرات هائلة على المستويات كافة لمواجهة الأزمات يقول الشاعر عادل الناصري :
مدن في الشرق
مدن في الغرب
مدن باصرة .. ومدن بصيرة
مدن عارية
تبحث عن لباس
من توت !
مهجورة هي الآن
موسكو .. وبرلين ..وطهران ..
روما وأسوار الفاتيكان ..
حائط مبكى
ومكة
أربيل .. والنجف .. والبصرة
آه ياللحسرة .. (٦)
لذلك يمكن القول أنه لا مخرج من هذا المأزق الا بالحكم على الأفعال بدلا من الأقوال والنوايا وإرساء دعامة ثقافية تعزز الوعي الحقيقي بالمخاطر الكبيرة التي يشكلها تفشي هكذا نوع من الأمراض وبالتالي سوف ينشأ تعاوناً مشتركاً بين المثقف وعامة الناس للخروج من هذه الأزمة .
ولعل ما تشهده الحركة الثقافية اليوم من نجاحات في كسر حاجز الخوف وفتح دور الثقافة أبوابها لاحتضان المثقفين خطوة جبارة لعودة الحياة إلى طبيعتها وبث روح التفاؤل بين الناس مما ينعكس إيجاباً على قدرة الفرد لمجابهة وتجاوز الخطر .. أننا اليوم أمام تحدي كبير يقف المثقف في المقدمة منه ، لكي يثبت انه قادر بما يحمل من وعي وثقافة إلى تشخيص الخلل وتقديم البدائل الحقيقية لتعزيز المجتمع المدني الفعال في التصدي لكل الأخطار والأزمات التي تواجهك ، ان نجاح المثقف مرهون بتحديد المشكلات في المرحلة الراهنة ، وتحديد أسبابها ورسم خارطة طريق لتجاوزها ، وذلك يتطلب تكثيف الإنتاج الثقافي لنشر الوعي بين شرائح المجتمع كافة .