مجيد ناجي  صناديق عمر وديوان شعر / صاحب خوام

مجيد ناجي صناديق عمر وديوان شعر / صاحب خوام

صاحب خوام /. العراق
صناديق كارتون كُدّست فيها أوراق ودفاتر وملفات نجت من الحريق الذي أحال البيت رماد، لأنها كانت في غرفة الحديقة المعزولة تحت اشجار السدر الكبيرة والتي حوّلها الدكتور الى غرفة مكتبة، صُفّت الصناديق تحت الرفوف المكتضّة بالكتب وببقايا الكتب التي تضررت بسبب دفنها في نفس الحديقة في أزمنة مختلفة هي أزمات تأريخ العراق.. رقدت تحت غطاء من الغبار والتراب الهاطل من سقف الغرفة،رغم كثافته لم يستطع نسيج العنكبوت ان يُحكم فتحة الباب فبقيت تتسلل اليها رياح الفصول المتعاقبة مايزيد على ثلاثين عاماً .. غادرها مسرعاً على أمل العودة القريبة فأخذته المدن البعيدة المتناثرة طرابلس، لندن، مسقط، استاذاً في جامعاتها، بعد عقد وفي ليلة شاتية يُعلنُ قبطان الطائرة انهم يمرون الان فوق وطنه فيُنشِأ مع دمعة حارقة :
بلـدي وهـل لأراكَ من أمَدِ
ياجـنـة غَـنّى لـهـا كـبــدي
عشـرٌ مضتْ والشـوقُ يهـصُرُني
هَصْرَ الغُصون لِسِدرها الخضِدِ


حين بدأنا بفتح الصناديق تسربت لنا رائحة الورق العتيق والاحبار التي بقي لونها ناصعاً ذو بريق، أحسستُ كأن روحه تقف معنا تتحرك في أرجاء المكان تتفحص الكتب ويده تمتد قبل أيدينا الى الورق والدفاتر ظناً بها وخشية عليها فهي عُمرهُ كلّه متسلسلاً منذ ان بدأ معلماً مُعيلاً لعائلة كبيرة بعد الرحيل المبكّر لأبيه، دفتر احضار الدروس، مدرسة الحيدرية، أسماء الطلبة ودرجاتهم، ثم كلية الفقه مع اساتذته المؤسسون الأوائل، تعليقاتهم وخطوطهم الحيّة على أوراقه، أجواء النجف العلمية، مجالسها ومناسباتها، إستل د.علي حجي رزمة من داخل كيس ورقي وكأنه سقط على كنز قال هذا الكتاب الذي يسأل عنه الباحثون كثيراً ولم يهتدوا اليه ديوان الشيخ عبد المهدي مُطر بخط الدكتور مجيد ناجي وعليه امضاء وملاحظات الشيخ نفسه، في بغداد أكمل الماجستير حيث الاجواء المفتوحة المختلفة عن أجواء النجف المتشددة، أتصفّحُ ديوانه ذو الدفاتر الخمسة التي بين يدي والذي طُبع جلّه في (ديوان شعر) ترى القصائد مفتوحة تقطر رقّة وجمال، يودّع بغداد التي فيها للمُشاةِ دروبُ بقصيدة
سلامٌ بعيد الهجر ياأيها الدربُ
فما حفظت آثارُ أقدامنا التُرْبُ
ويتوجه الى القاهرة وما أدراك ماالقاهرة في ذلك الزمان، أساطين العلم وعمداء الأدب، كلية دار العلوم حيث يكمل الدكتوراه ويعود ميمماً صوب الغري مأنسُ نفسه ومسقط رأسه، الجُذاذات التي تسمى اليوم القُصاصات تشغل حيزاً كبيراً من اوراقه، هكذا كانت تكتب البحوث والأطاريح فكل بضعة منها تُشكّلُ صفحة واحدة.. تحقيق لديوان جده لأمه الشيخ عبد الحسين الحلي قاضي قضاة البحرين اوراقه الرقيقة منسوخة بحروف مائلة بيد الشيخ قبل قرن ونصف تقريبا، بحوث ومسوّدات ودواوين،أسئلة امتحانات، محاضر اجتماعات ادارية وعلمية، داخل جدران صناديق الكرتون الصغيرة رحلة عمر ومسيرة حياة، كنت اشعر انه بكل حركة ورقة منها سينتفض ويعترض فهي ليست أوراقاً مسحوبة في زمن النت،كل ورقة أخذت فسحة زمن وجهد عقل وعواطف ومشاعر حتى شابت المفارق فكأنه إستشرفها قبل رحيله في زمن مبكّر فقال:
إن أثقلتك الليالي كاهلاً فلقد.. أثقلتَ كاهلها علماً وعرفانا
وفي طويل ليالي الغربة والمرض كان يإن :
بلدي لقد طوّفت مغربها والشرق حتى شبتُ من كبدِ
والعين لازالت محدّقة صـوب القـبـاب بأشرفِ الجددِ
وما زال في صندوق العمر خبايا وخفايا وكنوز

(Visited 82 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *