(تربية الاطفال)
ميثم مهدي الخلخالي
لم تعد الكتابة كسالف عهدها تعالج قضايا المجتمع وتحذر من اخرى وتدعو لاشياء قدتكون بنظر كاتبها من ضروريات الفكر والحياة , حتى اصبحنا نرى في زماننا منالعجائب ما لم تشاهده ((اليس في بلادها)) , فالنت والمضمار الواسع الذي اقتحمه اربابالكيبورد افسدوا حرفة الكتابة وازالو روائع شواهدها فانسوا الناس حقيقة الاقلام وكيفكانت تسحر الانام وتلهب نفوسهم شوقا لالتهام تلك الحروف وهل من مزيد ,فاستعنتبذاكرتي التي لا اعول على غيرها بعد الله لارى تلك الاسماء والاقلام الرائدة وكيف احترفتالكتابة في زمن تندر فيه وسائل الراحة والتواصل والتخاطب وكيف سخروا كل مالديهملخدمة الفكر والمجتمع وتقويمة لا انحطاطه فكانت الاسماء تترائى امامي كطيف منالسطور المتقاطعه والتي امتدت الى المالانهاية فشكلت جسرا منيعا من الافكار والرؤىليلمع امامي واحدا من فرسان الكتابة ورواد الحركة الفكرية الا وهو جرجي زيدان فتتبعتكتاباته التي اكل الدهر عليها لأكثر من مئة عام فاعتقدت انها اصبحت من ركام المدوناتالبالية لتستقر في الرفوف التي نسي السلم كيف يصل اليها بعد ان اعياه الانتقال بين النتاج الكمي لكتابات اقلام الجدد التي للاسف اذهلت الشباب السطحيين بنظرتهم لعالمالكتابة والقلم , فلم يدركوا بعد ان للقلم سحرا فعالا لا يبطل كسحر سكان بابل في سالفالازمان .
استعنت بذاكرتي واسترجعتها بتأن لأتذكر كيف لي ان اعثر على واحدة من اعمال زيدان السحرية ذات الفعل المؤثر الذي لا يبطل مهما اختلفت الظروف وتعددت التعويذات الركيكة, فقد اصطبغت اطراف ابهامي بذرات التراب المتراكم على تلك المدونات القديمة بعد ان نسياصحابها موقعها على خارطة الفهارس فكنت مجدا في البحث واشعلت ذاكرتي بالتزامنمع بصري في ان اجد ضالتي حتى وجدت كتاب مختارات جرجي زيدان فلم اكن متانيأ فيالخوض بمضمونه فقد جذبني منذ السطر الاول حيث يقول (يرى علماء الاخلاق والطبائعالبشرية ان الجراة الادبية ارقى في سلم الفضائل لأنها نتيجة الاقتناع بالحق )
فلم اشك في ان لهذا القلم سحرا فعالا مادام مقترنا بالحق والجرأة في انفاذه ,
فشحذت همتي لأكون ساحرا واخترق الزمن عبر السطور وبين الكلمات التي انتظمت بكلوقار على الورق الشاحب الاصفر فسبحان من لا يهرم , ليكون لي مع جرجي زيدان مجلساطويلا امتد دونما يقاطعنا احد احاوره ليجيبني عبر عشرات السنين بصوت واضحومدوي كأنني اسمعه عبر مكبرات الصوت ويسمعني كانما اخاطب نفسي من دهشتيفكيف كان يسمعني لا ادري ؟؟
لم تكن جلسته امامي مباشره فالاثاث لم يكن ملائما لمثل زيدان فالمائة سنة احدثت فرقاكبيرا حتى في مقاعد الجلوس كما انه لم يستطع ان يراني فالانارة فوق راسي من((الليدات )) كانت قوية جدا في زمن لم يكن زيدان قد عاش الكهرباء ,وهكذا اتفقنا اننتحاور عبر الافكار واسترخصته ان اكتب مايقوله على حاسوبي الشخصي وبتصرفمني لانشره بالنت وبالتالي ينتفع اكثر الشباب من كلماته حينما يتصفحون الفيس بوكفوافقني بالوقت الذي كان مستغربا من بعض الكلمات التي لم يفهمها مثل ( حاسوب , نت, الفيس بوك) حيث وجدته يقلب كتابه تاريخ اداب اللغه العربية لعله يعرف معنى لها ولكندون جدوى طبعا .
وبينما اخاطب انفسي لارتب اسئلة قد تكون جديدة على تفكيره واصوغها بمستوىيحاكي زمنه وجدته قد انطلق في حديثه باسلوب كانه يعيش معي وعلى الرغم من بعدالمسافة بيننا ويعالج مشاكل نعيش ازمة وضع الحلول لها لحد الان فعندها عرفت ان قلمهسارٍ بسحره لهذه اللحظه .
كنت قد تابعت الكثير من مواقع النت وزرت قنوات يوتيوب لاجمع اكثر عدد ممكن من طرقتربية الاطفال الصحيحه والتي اتعبت الاباء في هذا الزمان بعد ان كان الطفل مطيعا لآباءهوملبيا لرغباتهم يصوغونه كيفما يشاؤون ويمتثل لامرهم دونما تعب , فاللعب واللهووالعاب الدجتال وتصفح النت اصبح ابا بديلا للاب الحقيقي يمتثل امره ويستمع صوتهحتى يصبح الولد قد تربى على افكار لاتليق بمجتمعه ولا حتى بعائلته او بيئته ولكنمالحل وما الخلاص من ذلك ؟؟
شاهدني في حيرتي جرجي زيدان وتعجب من تساؤلاتي بعد ان كان يعتقد انا قد ارتقينالزمن اعلى بالفضل والاخلاق والتربية فكيف يبدر مني هكذا تساؤلات ولما استيقن ان الامرليس كذلك خاطبني : بماذا استفدتم من التقدم العلمي وكيف سخرتم التطور ؟؟ فزادحيائي من ان اجيبه بعد ان كانت الاجابه واضحه عندي لاعنده.
لم يعتن زيدان بسكوتي بل باشر الحديث بقوله هذِّبوا ابنائكم وهم اطفال :
فقلت له وهل يكون ذلك وقد ولدوا بطباعهم ؟؟
فلم يمهلني ان اكمل حتى قال:
((ان هنالك فريقان من الناس من حيث رؤيتهم لتاثير التربية على الانسان فمنهم من يرونلافائدة من التربية فالطفل يشب على مافطر عليه من خير اوشر فالصادق مفطور علىالصدق والكاذب على الكذب وكذا الكريم والبخيل وهكذا منذ ولادتهم باعتبار ان بيتا فيهعشرة اخوة يختلف بعضهم عن الاخر فمنهم الشجاع والجبان والصادق والكاذب فالتربيةهي صقل للمواهب كما يصقل الذهب والنحاس ولايغوص بالبواطن ولايلبث كل معدنحتى يعود لطبعه
وفريق يزعم ان الانسان صنيعة التربية فهو كالعجينة او الطينة ماتريد طبعه فيها انطبعفاذا جف اصبح الطبع فيها دائما وهكذا ))
فقلت له ان كلاهما صحيح فقال : ان الصحيح يقع بينهما وليس احدهما فقلت له : انني لااحب الفلسفه وانك لاشك تريد ان تدخلني مداخلها التي لا افهمها مطلقا ,
فتمدد شاربه بابتسامه عريضه وقال دعني لاوضح لك المعنى بمثال واقعي:
((انما الانسان وسط بين ذينك الرأيين فهو اشبه بالشجرة تنمو مستقيمة او معوجة حسبمايطرأ عليها من مؤثرات فان القيت بذور البرتقال بالبستان ولم تتعدها بالسقي ولاالعناية ولا حتى ايذائها ستنمو وتكون اشجار كبيرة فيها المثمر والغير مثمر والكبيروالصغير والمستقيم والمعوج لو تتبعنا المشكلة لوجدنا ان الامر يتعلق بتركيب البذور منجهة وبالظروف الجوية من جهة اخرى وبالتربة من جانب اخر فكذلك الانسان اشبه بذلكاذا ترك للعوامل الدنيويه دون عناية واهتمام فقد يكون استعداد لاعمال عظمى وفطرةغريزية للاخلاق الحسنة وقد يكون بالعكس فاذا تعاهدت تلك البذور بالسقاية والاهتماموتلافيت اعوجاجها فيما بعد واسندتها لتقاوم الريح وقلمتها من الافرع الزائدة المشوههلها والتي تعتاش عليها فسوف لن تجد الا بستانا جميلا من اشجار يانعه جميلة متناسقهرائعه كذلك الاطفال فاذا عومل بالمعاملة اللازمة اكتسبت غرائزه شكلا جديدا فاذا كان ميلهاللخير زادتها تلك العناية رونقا واذا كان مثلا ميالا للكذب قبح مربوه الكذب في عينهوراقبوه حتى اصبح يخافه فيقل وقوعه فيه وهكذا ))
فقلت له مثالك جميل ارجع اسطوانة ذاكرتي الى الوراء وعلى محطات حياتي مع والديّوكيف كانو يتعهدونني بالتقويم والتوبيخ احيانا حتى اصبحت والحمدلله على هذا الحال فتشبيهك رائع جدا على الاطفال وتربيتهم والذي لا ينطبق فعليا الا عليهم.
فرد علي زيدان بقوله كلا فالمثال يسري الى ماهو اكبر واعظم حجما من ذلك هل انتمستعد لسماع حديثي كاملا ؟
فقلت له بالتاكيد بينما انا اقلب الصفحة التاليه من الكتاب فقال :
((على اننا اذا اعتبرنا التربية بالنظر الى الامة على وجه الاجمال راينا تاثيرها اعظمويزداد بتوالي الاجيال , كما تتحول الاشجار البرية الى اشجار بستانية بتوالي غرسهاوتعهدها بالاصلاح والعناية ويظهر هذا جليا في تاثير الاديان بالامم فترى لكل امة اداباواخلاقا قد اكتسبتها بتوالي الاجيال من تعاليم الدين وعليك ان تقس على قبائل العربقبل الاسلام وفي الاسلام لتعرف فرق التربية بينهما .))
توقف زيدان وكنت ارقب نظراته وهو يخوض في بحر تفكيره ليقول وانا اكمل السطورالاخيرة من الصفحة :
((فالطفل يخلق وفيه شيئان يجب الانتباه اليهما في تربيته وهما عقله واخلاقه فالعقل اذاقصرالوالدان في تربيته فالمدرسة تعوضه عنه اما الاخلاق فلابد من تداركهما منذ الطفولةفهي عماد الفضائل وعليها يتوقف مستقبل الانسان في هذه الحياة من خير او شر ))
وما ان سكت زيدان حتى تكدست امامي الايات والاحاديث الواردة من الرسول وائمتناالعظام والتي تحث على تربية الطفل على الاخلاق الحسنة وكيف اكدوا على مباشرتهبالادب منذ صغره لعل زيدان قد اطلع على كل هذا التراث وطرحه امام المجتمع باسلوبهالجذاب
هنا وجدت زيدان قد تحول بكلامه لاسلوب خطابي رائع وبدا يقول ان
(( فتهذيب الاخلاق اول ما يجب الاعتناء به وهو من واجبات الاباء والامهات بل هو منواجب الامهات على الاكثر لانها تصحبه في هذا السن اكثر من ابوه ولذلك قالو ان التي تهزالسرير بيمينها تهز الارض بيسارها لانها اذا حسنت تربية اخلاق ابنها جعلته سعيدالنفسه ومفيدا لابناء نوعه ))
وفي اعتقادنا ان تربية الاخلاق التي يراد بها سعادة الانسان ومنفعة ابناء نوعه تنحصرفي هذه العبارة (( علم ابنك الصدق والترتيب والمحافظه على الوقت وبغض الكبرياء ))
وما ان توقف زيدان حتى تاكدت ان حديثه قد انتهى بعد ان كانت نهاية الصفحة تشير الى
(مقال مجلة الهلال في السنة 11 صفحة 485 )