مظفريات
43
يكتبها : محمد السيد محسن
—–
العراق بالنسبة لمظفر النواب هو الحاضر في كل قصائده , وهو الكأس المعلى , والفتاةالجميلة , والذاكرة البسيطة , وأمه , وغنيده , والنهر , والريل , وكل شيء جميل عند مظفر لهعلاقة مع العراق.
بيد ان هذا الوطن الجميل , لم يعط مظفر ما أعطاه هو , ولم يكافئه بالقدر الذي يستحق بهالمكافأة , مظفر الذي يعيش في منفاه يصارع مرضه الاخير , ويعد ايامه , كان يتمنى ان لايدفن خارج العراق , وكان يتمنى ان تنتزع روحه وجسده مطروح على ارض عراقية , وكتبيقول في شوقه للعراق :
يا وحشـةَ الطرقات
لا خبر يجيء من العراق
ولا نديم يُسكر الليل الطويل
مضـت السنين بدون معنى
يا ضياعي
تعصف الصحرا وقد ضل الدليل
لم يبق لي من صحب قافلتي سوى ظلي
وأخشى أن يفارقني
وإن بقي القليل
هل كان عدلٌ أن يطول بي السُّرى
وتظلُّ تنأى أيها الوطن الرحيل
وكأن قصدي المستحيل
نفثت بي الأحزان كل سمومها
فرفعت رأسي للسماء صلابة
فأضاعف الصبر الجميل
إني أرى يوم انتصار الناس
رغم صعوبة الرؤيا
وأسمع من هتافي في الشوارع
سيما في ساحة التحرير
نخبك يا عراق
وليس ذي أمل كليل
—–
ورغم طول قصيدة “عروس السفائن” , وتضمنها الهمَين اللبناني والمصري , الا انه ابى انيقفل القصيدة دون ان يمر على العراق . وفي تلك القصيدة عاتب مظفر النواب وطنهالعراق , وذكر لأول مرة ان هذه البلاد تسيء اليه , بيد ان مسيئها جميل , ولأنه الوطن فلاخصام مع الوطن :
عروس العرائس أدعو النجوم الى قمرتي
فأنا أُولِمُ الليل نذراً
وألبسُ أبهى ثيابي
فقد كنتُ عند نخيل العراق.. وإن كان حُلماً
وكان العراقُ على مُهره عارياً
مثلما أولدته السماءُ
وكان على عتباتِ العراقُ الفضاءُ
وبين ضلوعي فضاءٌ.. به نجمةُ
لستُ أدري بماذا تُضَاءُ
وفي نجمتي تلك يجتمعُ الله والأنبياءُ
قف تمهل..وتأخرَ عنهم نبيٌ
سُئِلْتُ
فقلتُ: يُزَيِّتُ حَدَّ السِلاحِ
فإنّ نبيَّ الزمان الفداء
عروس السفائن صار العراقُ لطول المجافاةِ حُلْماً
ولكن به دجلة والفرات
كأن من الحلمِ يرشحُ عشقٌ وماءُ
يُسيءُ إلينا العراقُ.. وفي الحُبِّ حُلوٌ يساء
أيا وطني ضاقَ بيَّ الإناءُ
كأن الجمال بليل الجزيرة
سوف يطولُ عليها الحداء
كأن الذي قتل المتنبي لشعري إبتداءُ
لأمرٍ يهاجر هذا الذي أسمه المتنبي
وتعشقهُ بالعذاب النساء
وما قدرٌ أنه في الجزيرة يوماً.. وفي مصر يوماً.. وفي الشام يوماً.
فأرضٌ مجزأةٌ.. والتجزؤ فيها جزاءُ
—-
كنت أسمعت مظفر مقطعا شعريا لي يتحدث عن العراق وكيف يؤذينا ونحبه , وأحب ماكتبته وقال حينها وبحسرة طويلة : لا أدري يا محمد .. هل ان الذاكرة تشعل فتيل الوطنفينا , أم ان الوطن يشعل فتيل الذاكرة …
وكنت قلت :
قال شاب خرج توا من الحرب :
بقعة أشعر بالأمان إذا استدبرتها اسمها الوطن
قال شاب عاد توا من الغربة :
بقعة اشعر بالامان اذا ذكرتها
اسمها الوطن
—-
وحين يتحدث مظفر مع نفسه , وبملامة المعاتب يتذكر احباب الذاكرة في الوطن , يتمنى انيلقاهم , كتب عن هذه الحالة قصيدة من الوجع العراقي الذي يكتنزه بين جوانحه ولا يبوحبه الى احد , قال مظفر :
كاعد بشباجك من أسنين انته وهالدفاتر
تركض تشيل الجنط والحزن ألمن؟
ناس ما منهم گُمر
ناس ما يسوون خاشوكة شكر
الناس الردتهم
نسو من سنين اسمك والمحطه
وخلّو دموعك نهر
لابد يردون باجر
سوي نفسك ما شفتهم
بالك يحسون انت تذكرتهم
اثكل شويه يكلبي
مرة خليهم محطه
وانت سافر
ادري بيك تريد تبجي
ابجي وحدك انه ساكت
بس احلفك يا كلب يجبير لا ينخطف لونك
لو شفتهم
—–
اه على هذا الوجع الكبير الذي يحضن اركان جسد النواب , تلك نوائب الغربة عن العراق , وتلك اوجاع المنفي بملء ارادته , وبغصب الزمن , بحثا عن الكرامة , او مخافة ان ينفرط عقدالكرامة.
في الغربة يؤمن مظفر النواب لا ينبت اي شيئ الا الملح , وفي قصيدة “انتهى عقدالايجار” يقول وهو يعد سنواته الواحدة تلو الاخرى يمضين وهو ما زال بعيدا عن وطنه :
في حجرة نومي
في السطح المقفر
كالعشق المتأخر بعد الخمسين
لاشيء سوى ريح الليل
وأدفن قلبي البصلي
بتربة أيامي السوداء
عسى يزهر كالزنبق
في شرفات الجيران
وإن كنت أشك به منذ سنين
سنة أخرى مرت
لم يتنفس طين الحزن
ولم ينبت شيئا
أفرغت عليه جميع
قناني الخمر بلا جدوى
واليوم وسيدتي تقطع أوراق
الرزنامة
قالت إحدى الأوراق بلغت
الستين
عذرا جارة حزني
في الغربة لاينبث إلا الملح
يغطي صمت الأيام وعقم الطين
العشق قليل ماينبت هذي الأيام
وقد بالصدفة
لكن من يدري
فالأيام بلا مطر
وقلوب بني الإنسان بدون رنين
—-
لقد اتعبته الغربة ولم يعد يقوى على حمل نفسه , همومه , ذكرياته , ولم يبق لديه سوىحلم العودة وان كان محمولا ..
في قصيدة “أيها القبطان” يقول مظفر واصفا انهيار الجسد بفعل الغربة والزمنوالاحباطات التي رافقت الامة واعشوشبت فيها :
مُتعبٌ منّي
ولا أقوى على حَملي
لبيتٍ كلما قاربته
ينأى
بِما سَهَّدَني العِشقُ
على كتفي ناما
رَسَموا بحراً
وألقوا مركِباً
كلُّ ثُقوبِ الدهرِ فيهِ
ورَكِبنا
حينَ لم نَلقَ سواهُ
فوجَدنا نَفسَنا نَغرقُ
والرُّبان ربانُ النفاياتِ
يُنادينا ادفعوني
ومضى يفتكُ بالنّسوةِ
في قَمرتِهِ العُليا
وبالإثمِ اعتصاما
أيها القبطانُ زوراً
ليسَ بالمَركبِ
والبحرِ ثقوبٌ
إنما أنتَ هو الثُقبُ
ولن يَمنَحكَ البحرُ احتراما
—–
ذاك هو الخذلان العربي الذي يحيط الامة والذي حاول مظفر وناضل بشبابه وهرمه كيينقذ هذه الامة من هذيان قادتها , بيد ان قادة السوء والانبطاح ساروا في السفينة الى برالخطيئة .. وبدا القهر يدب في قلب مظفر حين يقول في قصيدة “فاركيت انت سفينه: :
ما بجيتك
تدري شيسوي القهر
مدري منهو بصدري يبجي
مدري منهو يشكك بكلبي الكواغد
مدري منهو يجرني بليدر للمطر
ما بجيتك
درت عيني للبحر
ابجي المسافات الهمتها وياك
ما بجيتك
انه جايبلك من دموعي بحر