الورقة المختومة  أيام عمان الجزء ٩ حين .. د. احمد مشتت

الورقة المختومة أيام عمان الجزء ٩ حين .. د. احمد مشتت

 

د. احمد مشتت

حين حاولت مريم وجاهدت كي يخرج صوتها طبيعيا ولايكشف مؤامرتها الصغيرة بتمرير ورقة سعد، رن جرس الهاتف في مكتب المدير من جديد.
هذه المرة تضاءل حجم الرفيق المنتفخ وتلاشى صوته الآمر وتحول الى صوت مطيع بدون صدى وبدا ان مسؤولا اكبر منه بكثير قد اتصل به.
نهض من كرسيه ووقف كما يقف الجنود في الاستعدادات العسكرية
وطل يردد طوال المكالمة الهاتفية
– نعم سيدي
– صار
– تأمر
ونزلت قطرات عرق على جبينه وعلى كرشه الذي بان من القميص.
انزل السماعة بعد انتهاء المكالمة ورقد على الكرسي منهكا.
– لازم اطلع فورا
بحث عن مفاتيح سيارته
– خبري البيت راح اسافر لبغداد بمهمة عاجلة ويجوز اتاخر هناك.

– استاذ تروح بالسلامة، هسه اخابر البيت
بس ممكن توقع هذه الاوراق لان بيهه طلبيات للمخازن والمختبر، مو هواي كم وحدة بس. تروح وترجع بالسلامة وسلمت الملف لاصابعه ورقة ورقة بسرعة قصوى حرصا على وقته الثمين.
وقع الاوراق وهو يلبس سترته وباله مشتت و بدا على وجهه انه ذاهب الى مهمة جسيمة ، لهذا لم يأبه لمحتوى الاوراق التي في معظم الاحيان لم يكن يفهم مافيها على اية حال ، طلبيات لمواد كيميائية لايستطيع حتى ان يقرا اسماءها.
قدراته الاكاديمية الحقيقية هي الولاء المطلق للحزب، غير ذلك مجرد تواقيع على ورق غير مهم له.
غادر الرفيق الغرفة اخيرا مودعا بصلوات مريم
التي انهارت على اقرب كرسي قربها وتنفست اخيرا بعد ان حبست انفاسها تماما في اللحظات الاخيرة بانتظار ان يمهر الرفيق مثنى توقيعه المهم على ورقة سعد للسماح له بالسفر.
خلال عشرة دقائق سلمت الورقة الى ابراهيم النجفي صديق سعد في المختبر.
قاربت الساعة الثانية عشرة ظهرا حين اخترق ابراهيم كرڤان سعد وعلى وجهه ابتسامة انتصار انتقلت اليه تلقائيا من مريم حين قالت له
– الله وياه
بعد عناق الفراق الأخير مع ابراهيم اختفى سعد مجددا في الطريق الصحراوي الى محطة الباصات.
كان عليه ان ياخذ الورقة الى وزارة النفط للتصديق عليها قبل ان يتمكن من التقديم على جواز السفر.
تمت هذه المهمة بنجاح وقال له الموظف الذي استلم الورقة تعال بعد يومين لاستلام الورقة بعد تصديقها من الوزارة.
في اليوم الذي ذهب فيه سعد الى مصفى السماوة. جائنا الى البيت زوار متوقعين.
سمعنا طرقا عنيفا على الباب
– يمه اجو
قالت امي والذعر قد تسلل الى يديها المرفوعتين الى سماءٍ بعيدة ودعاء غير مسموع لحفظ ابنائها.
ابي العليل لم يستطع حتى ان ينهض لاستقبال موفدي ذاكرة الخوف الذين اخترقوا حديد الباب بنظراتهم المستفزة و بدأ الاستجواب عبر أثيرٍ هش.
فتحت امي الباب اخيرا بعد ان قادت جسدها الذي اوجعته نكبات السنين ورجاء الرحمة لم يتوقف من عينين تقرأُ ملامح القادمين.
دخل رفاق الاستجواب متأبطين سجلاتهم السميكة بكروش نافرة وشوارب غطت بالكامل على تفاصيل الوجوه ، شوارب الرجولة الضائعة.
قطعا المسافة من مدخل البيت الى الغرفة التي كان يرقد فيها ابي بخطوة واحدة.
اوصلا رسالة السلطة الواضحة.
– وين ولدك رعد وسعد؟ نريدهم. لازم تدلينا عليهم- متآمرين على الثورة.
– قسما عظما اذا مايجون للفرقة الحزبية باچر
ناخذك انت مكانهم
قال الرفيق الاكثر بدانة وهو يجلس بصعوبة على حافة التخت الخشبي بسبب كبر حجم خلفيته.

مازلت اسمع طرقات الرفاق على بابنا حتى الآن.
ذاكرة الخوف لا تصدأ ولا تستبدل ما تخفيه على رفوفها.
لا شئ من محتويات ذاكرة الخوف له تاريخ انتهاء.
وهي ذاكرة ترافقك في الايام المرة والسعيدة.
تراقبك طوال الوقت ولاتستطيع انت ان تتدخل في شؤونها المعقدة.
كنا في ملاجئ الحرب و نحن نبني ثقبا في الارض بطول اجسادنا لتمويه الشظايا ، ترافقنا ذاكرة الخوف لتستمع وتستمتع بنبضات قلوبنا المنكوبة.
و العراقي له الحصة الاوفر من ذاكرة الخوف يضاهي بها مواطني العالم اجمع.
ذاكرة العراقي من الخوف ذاكرة متجددة تضيف الى مخزونها الهائل ما يفيض عن طاقة استيعابها.
ذاكرة الخوف مستفزة مثل وجوه الرفاق الذين تركوا في بيتنا تهديدهم الواضح والصريح
قال لي ابي بعد ان غادروا
– تنتظر اخوك سعد براس الشارع وتگله مايرجع للبيت، خل يروح لبيت اجداده.
كانت هذه اول مهمة سرية لي اديتها بكثير من الجدية والحرص. غادرت البيت واخذت كرة قدم معي للتمويه.
كانت دربونتنا في قطاع ٤ او ماكان يسمى دور الموظفين الحكومية التي بناها عبد الكريم قاسم. كنا قريبين من الشارع العام ولو تتجه يمينا تكون قد مضيت الى ساحة حبيب التي سميت نسبة لفريق كرة القدم الشعبي الشهير في المنطقة انذاك فريق حبيب الذي كان احد لاعبيه المهمين المهاجم الشهير فلاح حسن.
ولهذا اخذت معي كرة القدم للايحاء انتي ذاهب الى الساحة للعب، وبقيت اذرع هذا الجزء من الشارع ذهابا لساحة حبيب والعودة منها وعيني على الجهة المقابلة لموقف الباصات.
بعد حوالي ثلاث ساعات لمحت سعد. وقبل ان يعبر الشارع ركضت باتجاهه
قلق كثيرا حين رآني
– ها احمد؟ خير ؟
– اليوم اجو المنظمة الحزبية يسالون عنك وعن رعد، ابوي يگول روح لبيت اجدادي أأمن.
عدت لابلاغ ابي بعد اكمال المهمة.
اما سعد فكان عليه ان يذهب بعد يومين الى وزارة النفط لاستلام ورقة السماح بالسفر.
اخذ معه صديقه حامد ( استشهد في بداية الحرب عام ١٩٨٠) لغرض المراقبة وابلاغ الاهل فيما اذا تم اعتقال سعد اثناء مراجعته الوزارة.
اثناء دخول سعد الى الوزارة لم يخطر بباله اطلاقا ان يرى شخصا يعرفه. لم يرد هذا الاحتمال ضمن حساباته الامنية المكثفة.
كان يحسب انه سيدخل، يمضي الى قسم الصادرة والواردة يستلم ورقة السماح بالسفر
ووداعا للوزارة.
لكنه وهو يرفع راسه بعد ان اصبح في عرين الاسد لمح من بعيد خيالا يعرفه
كان يتقدم نحو باب الخروج من صالة الاستقبال
ودخان سيجارته يسبقه.
كان الرفيق المحبوب مدير المخازن والمختبرات في مصفى السماوة الرفيق مثنى
كانت المكالمة التي جعلته يتصبب عرقا اذن بحضور مريم قد جاءت من الوزارة.
جمد سعد
لم يكن متيقنا فيما اذا كان المدير يتذكره شخصيا وهو مجرد صعلوك من الاف الصعاليك العاملين في مصفى السماوة.
كان المدير يتبادل الحديث مع شخص ببدلة زيتونية دون رتبة عسكرية ويحمل مسدسا في حزامه.
هههههههههه
دوت ضحكاتهم في الممر الطويل
كان سيقول له لو اكتشف وجوده
– طز بيك انت والحزب
هذا ماكان يتمنى ان يقوله ولكنه لن يجروء ابدا.
انا هنا استاذ لمتابعة معاملة ترفيع مجمدة.
هذا هو العذر الذي جهزه.
وقبل ان يضطر لمواجهة من العيار الثقيل في هذا الظرف الدقيق قرر ان يستدير ويختفي بسرعة البرق من الوزارة. اكتشف ان لجسده النحيل فائدة.
استقبله حامد
– ها خلصت؟
– عدت على خير ، مدير المخازن بالمصفى جاي يمكن زيارة ترفيع، شافني بس ماكان عنده وقت يستجوبني، خل نفلت من هذا المكان بسرعة.
قررا الانتظار في الخارج ومراقبة بوابة الوزارة املا في مغادرة سريعة لهذا الزائر المفاجىء.
بعد انتظار طويل دام اكثر من ساعة جاء الفرج.
خرج مدير المخازن مع الرفيق صاحب البدلة الزيتونية مع سحابة من دخان سجائرهما.
بعد ان تأكد سعد تماما من اختفاء صاحب الظل الثقيل دخل الوزارة ومضى مباشرة الى غرفة الصادرة والواردة
و ظل بانتظار ان ينهي الموظف المسؤول تصديق الورقة
ساله الموظف عن سبب السفر مع انه لم يكن من حقه ولا من واجبه ان يسأل
– سياحة وي اصدقائي
اجاب سعد مرغما
ختم الموظف ووقع سبعة نسخ من الوثيقة
اعطى سعد واحدة وخرج الى مكتب اخر

خطا سعد خطوتين خارج باب الغرفة وعاد بحذر بعد ان تاكد ان الموظف قد اختفى تماما. اخذ سعد بقية النسخ التي تركت على المكتب ودسها في جيبه وغادر مسرعا.
تهلل وجه حامد فرحا حين راى صديقه يخرج من الوزارة سالما.
– اخيرا تمت الموافقة الرئاسية على سفر الصعلوك.
تلك كانت اخر مرة سيرى فيها سعد مديره المتفاني في القتل.
استخراج جواز السفر كان يسيرا لان الاوراق سليمة.
في هذه الاثناء كان سعد ورعد يبيتان في بيت جدي.
كانت الفكرة ان سعد يسافر جوا الى بلغاريا لان فيها اصدقاءه واصدقاء رعد.
لكن شيئا ماحدث خلال الايام التي تلت استخراج الجواز دفعته لتغيير الخطة.
ذهب بعد يومين من حصوله على الجواز لتوديع ندى.
ندى هي اخت جنان حبيبة سعد.
كانت ندى قد تخرجت من كلية الاداب مع رعد وتعرضت مثله الى ملاحقات امنية مضنية. بسبب ارتباطها برعد الذي صدرت اوامر باعتقاله بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي. كانت عقوبة هذا الانتماء للعسكريين هي الاعدام. رعد في تلك الفترة كان هاربا من الخدمة العسكرية بعد ان التحق بها لعدة شهور.
لم يكن امام ندى اي حل سوى السفر. لم يستطع رعد ان يذهب معها الى المطار بالطبع.
وتم الاتفاق على ان يذهب سعد مع ندى واختها الاصغر جنان الى مطار بغداد لتوديعها. والتاكد من سلامتها. لم يكن امام المجموعة تحت وطأ تلك الايام المظلمة والقاسية اي خيار آخر.
وصلوا المطار.
حاول الثلاثة ان يكون الهدوء وضبط الاعصاب رابعهم. صعدوا الى التكسي الى المطار بعزيمة كبيرة ولكن بدون أي تفاؤل.
لم يغب عن بال سعد انه سيكون المسافر بعد يومين. وصلو دون تاخير يذكر.
– ننتظر بالصالة الا ان تدخلين بوابة الرحلة.
ابلغ سعد ندى وهي تسحب حقيبتها.
دخلت وقدمت جوازها الى الضابط في مكتب التفتيش.
عينا سعد وجنان تنظران باتجاه واحد لاغير.
مرت اكثر من عشرين دقيقة وندى واقفة وكان واضحا من انحناء ضابط التفتيش لتدقيق جوازها وقيامه برفع سماعة الهاتف وحركة يديه المهددة ان ندى في خطر
فجأة ظهر شخصان بملابس مدنية وهيئة امنية واضحة بدت من خطواتهما. التفت ندى بيأس لايعرفه ولن يحسه غيرها الى صالة الانتظار وقبل ان ترسل تحية وداع اخيرة على سعد وجنان اقتادها الرجلان الى الداخل بعيدا في بناية المطار.
تم اختطاف ندى بسهولة مطلقة.
غابت هي وحقيبتها واحلامها دون ان يتغير مشهد المسافرين حولها.
كانت السلطة تهوى اختطاف مواطنيها وتغييبهم بدافع محبتها الغامرة لهم.

لم يبن من الخلف غير جسدي رجلي الامن وهما يسرعان الخطو وكأن ندى قد بخرها الرعب الذي حسم رحلتها مبكرا.
لم يتحرك سعد من مكانه
ضربته مسامير الدهشة وثبتته على الكرسي.
عيناه مازالت تتابعان اختفاء صديقته ويداه تمسكان بيدي جنان في محاولة لحمايتها من الانهيار.
احس ان مليون ثقب فتحت في الارض والجدران من حوله ترصد خطوته المقبلة وفكرته المقبلة
وهو لايملك ان يبدأ ايا منهما. هاجس واحد امتد وتشعب مثل عنكبوت كبير في راسه
– راحت ندى
– راح رعد
يتبع

(Visited 36 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *