ابراهيم احمد
في وهران غرب الجزائر أواخر السبعينات كنت والصديقان الراحلان الدكتور عبد اللطيفالراوي، والمسرحي المعروف الدكتور نوري الدين فارس، والصديق الدكتور عقيل الناصري؛متمنيا له العمر المديد، على لقاءات طيبة متقاربة امتدت لسنوات عديدة، كان الأصدقاءالثلاثة أساتذة في جامعة وهران ، كانت هذه اللقاءات أشبه بورش عمل ثقافية نشيطةحتى أن الراوي والناصري اهتما بمتابعة ترجمة فصول من كتاب حنا بطاطو ” الطبقاتالاجتماعية والحركات الثورية في العراق…..” ، وكما أتذكر طبعت تلك الترجمات المجتزأةعلى الرونيو قبل أن يترجم الكتاب كاملا وينشر بأجزاء ثلاث من قبل مؤسسة الأبحاث العربية في بيروت. لذا أتمنى لو عمل الدكتور عقيل والصديق سعدون هليل الذي حضرمناقشة أطروحة الراوي للدكتوراه، لوجودهما في بغداد على نشر أطروحة الراوي: ” الفكر الاشتراكي في الأدب العراقي من 1928 إلى 1958 “ بطبعة تليق بمحتواهاوأهميتها خاصة في ظرفنا الراهن!
لقد واجهت السلطات المتعاقبة دراسة موضوعات اليسار أو نشرها أو حتى التعريف بهابشكل محايد بالرفض والقمع أو الكبت أو غرس مختلف العراقيل والعقبات في طريقهاإضافة لحملات التشويه والتحريف والمسخ المتعمد كما إنها أحيطت من رواد وأصحاباليسار أنفسهم بهالات من التقديس ،والتبجيل الغيبي يقارب تقديس وتبجيل الرموزوالموضوعات الدينية والطائفية، والقبلية في هذه الأيام ، وحرم أو ضيق البحث فيها أونقدها موضوعيا بينما النقد والشك هو أساس كل تطور فكري وروحي، حتى عد منيحاول تمحيص أو تفنيد جوانب من طروحات وموضوعات اليسار بعمالته لأمريكاوالغرب أو بكونه خادما خانعا للثقافة الغربية!
تماهى أو تطابق فكر اليسار في بلادنا مع الفكر الاشتراكي حتى صار الحديث عن الفكرالاشتراكي يعني الحديث عن اليسار ورغم أن اتجاه الفكرة واحد تقريبا لكن الفكرالاشتراكي يهتم بالدرجة الأولى في البنى الاقتصادية والاجتماعية بينما فكر اليسار عاممطلق يشمل فضاءات أخرى ويتناول موضوعات فلسفية وروحية مختلفة!
وفي العقود الأخيرة حين غلب صراع البعثيين مع الشيوعيين على الصراع العام فيالبلاد، صار هم البعثيين إثبات كونهم الدعاة الأوائل للفكر الاشتراكي واليساري وليسوايمينين كما يروج عنهم خصومهم الشيوعيون!
وصار هم البعثيين وأتباعهم تسفيه اليسار الشيوعي واعتباره استنساخا للتجربةالسوفيتية بجمودها العقائدي وكونها بعيدة عن هموم الأمة العربية. مع إن اليسار لايقتصر على الحزب الشيوعي فقد شهدت الساحة العراقية صنوفا وألوانا من اليسار عدالحزب الشيوعي يمينيا إلى جانبها، وعدها الحزب من ناحيته تيارات متياسرة مراهقة تتسم بالفوضوية والتحريف والخروج على النظرية العلمية والعقلانية!
لذلك لم يكتب في تاريخ موضوعات اليسار إلا القليل ، وصارت مصادره مبعثرةومتضاربة حد التناقض لذا فإن الكتابة عن تاريخ اليسار وتطوره وتأثيره خاصة فيالثقافة العراقية والأدب العراقي سيكون صعبا ويحتمل الكثير من عمليات الشكوالتصويب والإضافة والحذف!
أتذكر في هذا المجال تجربة الراحل الدكتور عبد اللطيف الرواي فهو حين أراد أوائلالسبعينات الإعداد لأطروحته في الدكتوراه؛الفكر الاشتراكي في الأدب العراقي من عام1918 حتى 1958″ وضعت سلطة البعث في طريقه مختلف العراقيل وعند مناقشتها فيحرم الجامعة حضر الياس فرح عضو القيادة القومية للبعث وحاول تسفيه آراء واستنتاجات الراوي والضغط على القائمين بالمناقشة لرفضها والقول أن جذور الفكرالاشتراكي تعود لفكر البعث في العراق والمنطقة وكل من يقول بخلاف ذلك يعد مارقا علىهذه الحقيقة ، لكن لجنة المناقشة، ومعهم الدكتور على جواد الطاهر المشرف علىالأطروحة قبلوها بترحاب ومنحوها درجة عالية. ،بعد أن خاب مسعى الياس فرح عملعلى إبقاء الدكتور الراوي معلما في المدرسة الابتدائية حيث كان يعمل ولم يسمح له بتوليموقعا تدريسيا في الجامعة،فاضطر لمغادرة العراق ليعمل مدرسا في جامعة وهران حيثالتقينا!
كانت لدى الراوي قناعة أن من الممكن دراسة تاريخ المجتمع العراقي من خلال الأدب شعراأو نثرا، أو من باب ثقافته كمجال أرحب ، وهذا مدخل صحيح ربما فرضه أيضا جو القمعوالإرهاب المسلط على رقاب الكتاب والمبدعين في العراق منذ أزمان بعيدة!
وكذلك فعل الشاعر يوسف الصائغ في أطروحته الجامعية للماجستير أوائل السبعيناتعن “الشعر الحر في العراق“ فكانت محاولة أدبية لولوج قضية سياسية شائكة وكانالصائغ آنذاك لا يزال تحت تأثير فكر تنظيم القيادة المركزية الشيوعي التي انتمى إليه بعدخروجه من سجن نقرة السلمان الذي قضى فيه حوالي تسع سنوات ، مشيرا إلى أن معظمنزعات التجديد والتحولات العميقة في الشعر والأدب والثقافة عموما حصلت على يدمبدعين هم من أصول شيوعية أو ماركسية،ويسارية وعلى ذات المنوال حوصرت ولم يتحله مواصلتها أو نشرها على نطاق واسع وفي ظروف وملابسات معقدة!
ليس فقط البعثيون يريدون فرض تصوراتهم عن نشأة فكر اليسار ومفاهيمه وتأثيرهفالشيوعيون أيضا لا يطيقون دراسة تتحدث عن نشأته وتطوره خارج حاضنتهم وعن أيةتفاعلات سلبية نجمت عنه عبر طروحاتهم ونهجهم الحزبي والدعائي والمتأثر كثيرابالتجربة السوفيتية التي انتهت إلى الفشل!
وهكذا كادت وقائع أفكار اليسار تتحول إلى طلاسم ورموز سحرية غريبة تحاط بمحرماتوغموض وتكهنات ولا يقربها ألا مغامرون يعرفون أن ما سيحصدونه لن يجد رواجا أوقبولا بينما هناك حقيقة قاسية أليمة وهي أن فكر اليسار مس الكثيرين في العراق وكانتجماهيره تعادل جماهير أتباع المساجد ،وشخصيات المشعوذين بالدين والخرافة في هذهالأيام وكانت تظاهراتهم إذ نزلت تهز الأرض ورؤوس البشر وإنه حدد لهم مصائر قاسيةفاجعة،فكثير من أتباعه لاقوا العسف والضيم وقوبلوا بالرصاص والمشانق،أو قضوا زهوةأعمارهم في أقبية السجون وألحق بعوائلهم الدمار والحيف لأجيال عديدة . كما إنكثيرين منهم تنكروا له وعادوا سالمين إلى طوائفهم أو أصولهم القومية والعشائرية لذا لايبدو ترفا أو نبشا بدفاتر الماضي العتيق البحث في تاريخ اليسار، وتفاعله مع الثقافةالعامة للبلاد فنقده أو تقليب صفحاته بإمعان لا يعني التخلي عنه على العكس أنه تمسكبجوهره لا بأشكاله المبهرجة ، أو التقليدية القديمة المتحجرة فهو ليس تاريخ الجنون أوالجموح كما يمكن وصفه أحيانا بل هو تاريخ جانب من العقل امتد به الطموح إلى ذرىعالية تفوق طاقة البشر! ويبقى أذا ما أجريت مراجعة عميقة له بعيدا عن أطره الرسمية أوالشكلية البالية، وأخذ بما يطرح عليه العصر من مهمات جديدة هو الملاذ والحل الصحيحلمشكلات البشر في مرحلة ما بعد الرأسمالية المتوحشة!
تجمع معظم الدراسات على أن حسين الرحال هو أول حامل أو ناقل للفكر الاشتراكي فيالعراق ، أخذه عن الاشتراكيين الألمان حين ذهب ( 1916) ملتحقا بوالده الملحق العسكري للحكم العثماني في برلين،كان عمره 15 لكنه بمكوثة هناك حتى عام 1920 التقطالجوانب الرئيسية من هذا الفكر! وبعد عودته إلى العراق ذهب في سفر طويل إلى الهندوفي نيودلهي التقى باشتراكيين هنود فازداد عبر حواراته معهم تعمقا في الفكرالاشتراكي!
رجع إلى بغداد وأخذ يبشر بالاشتراكية بين أصدقائه المتعلمين الذين كانوا يتلمسونطريقهم في عالم الثقافة،ويمدهم بترجماته السريعة والقصيرة عنها فيلتهمونها كجائعينمزمنين! كانت موائد المقاهي منصاتهم ومنابرهم الثقافية الأولى لكن قفزتهم المثيرة حيناتخذوا من حجرة في جامع الحيدر خانة في شارع الرشيد مقرا سريا لهم، كان والد زميلهممحمود أحمد السيد أماما وخطيبا في الجامع وقد أفرد هذه الحجرة لولده ليتعلم فيهاأمور دينه ويهدي أصحابه إلى طريق الصلاح ويعد نفسه ليكون وريثه في إمامة الجامع! ولكن في أفظع الكوابيس لم يكن يتصور أن ابنه سيحول هذه الحجرة إلى مقر للشيوعيينالأوائل يصدرون منه جريدتهم “الصحيفة“ التي دوخت شرطة بغداد في بحثها عن مقرها!
افتضح أمر هؤلاء وانقض عليهم غضب المصلين وطاردتهم السلطات لكنهم عادوا يتقافزونبين المقاهي لا هم ولا حديث لهم سوى في الاشتراكية كونها الوصفة السحرية التيستخلص الناس من فقرهم وجهلهم وأمراضهم! أعجب محمود أحمد السيد بشخصية حسين الرحال واهتم بتفاصيل حياته ومغامراته فكتب عنه أوائل العشرينات رواية “جلالخالد” وإذا ما تخطينا الرواية الإيقاظية لسليمان فيضي 1919يمكن اعتبار “جلالخالد“ أول رواية عراقية مستوفية للشروط الفنية للرواية، وبذا كان من حق هؤلاءالاشتراكيين أن يتحدثوا عن ثمرة تأثيرهم في الأدب أنهم أنتجوا أول رواية عراقية!
يتبع ….