د.علي موسى الموسوي / النرويج
روح المكان ولبنة الانسان
“لا يُربيّ إلانسان إلاّ من كان اكثر من انسان”
تلك النظريّة التي شكلت بطانة انسانيّة لجميع التجارب التربوية النادرة في الدولالاسكندنافية لان أي بلدٍ يريد أن يتقدم في مجال التربية والتعليم عالمياً لابد أن يتوقفأمام التجارب الاسكندنافية التي تعتمد بناء اللبنة الانسانية وتفعيل الزّر المعنوي فيصناعة الارادة والرغبة والطموح في ذات الطفل كما هو الحال في النرويج التي تنتفيبين مناهجها امتحانات تمييز الطلبة ولغاية الصف السابع، كي لا يشعر الطلاببالتمييز والفوارق فيمّا بينهم خصوصاً في المراحل الأولى من الدراسة التي يمضي فيهاالطلبة ثمان ساعات، ثلاثة منها للدراسة والبقية للتعليم بواسطة الألعاب، وعند الوصوللمرحلة الصف السابع يفجر الطالب طاقته في هذا السن بشكلٍ مثمرٍ وتلقائي علماً أنالمعلمين هناك يجري إعدادهم ليكونوا مربّين مختصين في الجانب النفسي والاجتماعي،مما يؤهلهم ليكونوا ناجحين في تفهم التلاميذ وقادرين على حل مشكلاتهم في هذاالجانب، اما مملكة السويد التي خاضت تجارباً تربويةً نادرة ومُذهلة من اهمها دراسةفكرة التغلب على صعوبات دروس الجغرافيا وكره الطلاب لهذه المادة التعليمية، فضلاً عنجهل الطلاب بأحوال السويد وثرواتها ونوعية مناطقها من خلال توظيف الأدب الحكائيالموجّه للصغار عبر “مغامرات نيلز العجيبة” والذي ألفتهُ واحدة من أولى النساءالكاتبات الحائزات مبكراً على جائزة نوبل للآداب في السويد (سلمى لاغرلوف) اماالتجربة الفنلندية، تقف كعادتها في المرتبة الأولى بقائمة اللول الاكثر رُقيّاً في مجالالتربية والتعليم لان الدراسة هناك تعطي حيزاً كبيراً لتعليم الأخلاق والحوار، واحترامالاختلافات، وبحسب الأب الروحي للتعليم الفنلندي الدكتور “باسي سالبرغ” فإن أولخطوة اتخذتها فنلندا للنهوض بالتعليم هي التخلص من الجراثيم التعليمية الستةباعتبارها جراثيم قادرة على هدم أي نظام تعليمي يتكئ عليها، لأنها ممارسات غيرتربوية من شأنها إرهاق الأستاذ والتلميذ معًا، وإضعاف عملية التعليم جملة وتفصيلاً:
الجرثومة الأولى، تكثيف المواد وهي إحدى أهم الجراثيم التي يتم التعامل بها مع الطالببالكم وليس بالكيف، كم يحفظ من المعلومات؟ إذ يتلقى يومياً كماً كبيراً من المعلوماتوكأنه خزان معلومات وليس كائناً مفكراً، لهذا تجد الطالب يعبُّ ويخزَّن من المعلومات مااستطاع إلى ذلك سبيلاً حتى إذا جاء الاختبار أفرغها في الأوراق وخرج من القاعة وهو لايكاد يتذكر شيئاً، لأنه أفرغ ما حفظ من المعلومات، ولا يمكنك أن تتوقع استيعاب العقل إذاظلَّ يشتغلُ متواصلاً دون راحة، لهذا فإنّ الحصص الدراسية في فنلندا مفصولةباستراحة لعب وترفيه مدتها ربع ساعة، يستريح فيها العقل ويتجدد فيها النشاط،ويتنوع فيها التفكير.
الجرثومة الثانية التي تخلصت منها فنلندا هي كثرة الاختبارات والامتحانات، لقد فعلواخيراً في الطالب بإبعاده عن شبحِ الاختبارات والامتحانات المرعب، حيث يُشير احد الآباءعن ولده: “جاءني ابني العام المنصرم بعد اليوم الأول من سنته الدراسية الأخيرة وهومحبطٌ نفسياً، لأنّ المعلَّم قد انهال عليهم بالوعيد والتهديد من الامتحانات التي لا ينجومنها إلا ذو حظٍّ عظيم“.. حيث رأت فنلندا هذه الدولة النابغة في التعليم، أنَّه إذا اطمأنالطالب في يومياته الدراسية، استطاع أن يفكر ويعبِّر ويتطور أمّا التشديد والتهديدبالاختبارات، فإن له عواقب انسحابية خطيرة، ابتداءً بمشاعر التوتر والقلق، ومروراًبالضغوطات النفسية الحادة، و وصولاً لحالاتٍ مؤسفة إلى المفاضلة بين التعليم أوالحياة، وكأنّ التعليم مناقض للحياة، والجدير بالذكرإنَّ أعظم ما تراه فنلندا في هذاالصدد هو أنّ دور المدرسة أكبر من أن تحكم على طالب من خلال ورقة لان التعليم بنظرهمليس للتقييم.
امّا الجرثومة الثالثة، فهي إطالة ساعات الدوام، وتعني إنهاك الطالب ذهنياً وإرهاقهجسدياً، ما يتسبّب بضعف التركيز لديه ولاسيما إذا ارتبطت إطالةُ الوقت بحشوالمعلومات الذي يسبب إهدار الوقت وزيادةِ الملل للطالب والمعلم على السواء حيث رفعتفنلندا شعار “تدريس أقل، تعلُّم أكثر” وهو ما يعني تقليل وقت التدريس مع تعلُّمٍ أكثر،لأنّ فنلندا ترى أنّه لا توجد علاقة بين زيادة أوقات الدراسة والتفوق، بل على العكس منذلك، إذ لوحظ أنّ الدول التي يتفوق طلابها كانت تقلِّل من ساعات دوامها الدراسي فيحين أن الدول التي أظهرت تدنياً في مستويات طلبتها هي التي كانت تعتمد على زيادةساعات الدراسة.
الجرثومة الرابعة هي الدراسة المنزلية وحل الواجبات وعمل الأنشطة في البيت، إذ ترىفنلندا أنَّ للطالب الحق في الاستمتاع بوقته خارج وقت المدرسة، ولا يجب الاستحواذعليه، وأن له الحق في قضاء أوقاتٍ مع أسرته بدلاً من تمضيةِ الوقت في حلِّ الواجباتوالأنشطة، ما يتسبب في عزل الطالب اجتماعياً وعاطفياً عن أجواء الأسرة، ولهذا عواقبهالنفسية والعاطفية على الطالب لذلك فإنّه لا بد أن يمنحَ كلَّ جانب من جوانب الحياة حقَّهُمن الاهتمام والرعاية والعناية حتى ينشأ الطالب متوازناً في شخصيته.
في حين ان الجرثومة الخامسة والاخيرة هي الدروس الخصوصية، إذ أنّ لوجود الدروسالخصوصية تفسيراتٌ عدَّة مختلفة أو متحدة وهي إمَّا لأن الطالب لا ينال حقَّهُ في الفصلالدراسي بسبب كثرة الطلابِ، أو عمق المعلومات وتفاوت الذكاءات، أو لأنَّه لا يركِّزُ الانتباهَفي شرحِ المعلِّم اتكاءً على الدروس الخصوصية، أو لأنّ المعلم لا يبذل الجهدَ المتوقعلإيصال المعلومة.