هادي جلو مرعي
هبطت طائرة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مطار بغداد. بعد يومين حطت في مطار مهر آباد بطهران !.
عانق الرئيس صدام حسين ، وإنحنى للإمام للخميني، وضحك في وجهين لم يعرفا إلا إبتسامة محسوبة بالمليم كما يقول إخواننا المصريون.
حين سقطت تلك الطائرة وتوغلت في تلال الرمل الليبي كان الجميع يحسب أن الأرواح السبع لعرفات قد تعطلت فيها طاقة الحياة، لكنه خرج كأفعى الصحراء منساباً على كثبان لا تعرف إلا وأد الحياة.
قبره تحول الى شاهد على وجع، فكل الذين يزورونه في رام الله على علم تام :إنه أبو الوجع الفلسطيني، وإنه أحب، وكره ،وخادع، وماطل،وساوم، وإنحنى،وخضع ،ومال ،وجال، وصال، وخاب ،ونال ،وهام ،ولام، وسام من أجل فلسطين، وكذب ,وصدق، وإبتسم في وجوه كثيرة بغيضة، وسافر، وعاند،ولان ،من أجل قضية.
طرد من بيروت تحت الضغط ،ومضى الى تونس، تمنطق بالألم الفلسطيني،وإعتمر الكوفية وخط عليها خارطة الوطن الذي ضحى لأجله، وتحمل إستهجان الزعماء، وسخرية البعض ،وشفقة آخرين، وعرف إن منهم من أراده نكتة تلوكها الألسن لتتسلى بها النفوس حين تضجر. إستجدى من إخوته، وإقترض من الأبعدين. وفي عهده مل العرب منه، وأحبوه ،وساوموه، وطلبوا نصرته في معاركهم القذرة،وصراعهم مع بعضهم البعض.
تقطعت أوصاله من شدة الألم، وتيبست شفتاه لكنهما ظلتا تفتران عن إبتسامة تسع الضفة وغزة، وإحتوى الإسلاميين ،وغير الإسلاميين في منظمة التحرير. عرف إن من أنصاره من يبغضه ويكيد له، لكنه لا يملك غير المداومة سبيلا لتحقيق الهدف المنشود في سبيل الغاية المستحيلة. علم أنه سيمضي الى جوار ربه دون أن تتحرر فلسطين ،وأن بين العرب وذلك المراد مسافة هائلة، لكنه من أجل أن يحصل على دعم العرب والمسلمين ظل يبتسم، وإنطبعت ذكرى إبتساماته في القاهرة، ودمشق، وعمان، وبغداد، وصنعاء،والرياض، وإسطنبول، وطهران ،وجاكارتا، وأفشى لصدام حسين بسر خطير! (سنصلي في القدس) ولم يصليا.
إتهمناه بالكذب، والإستجداء، والمتاجرة بالقضية، وتحمل نكاتنا الشخيفة، لكنه صار عنواناً لقضيته، فهو الوحيد من حكام العرب الذي تحول قبره الى مزار، وهو الوحيد الذي لم يتخل عن القضية. وبينما توجه أنظمتنا سلاح جيوشها ،وعبقريات أمنها ،وعقارب حقدها ضدنا، لا يجرؤ أحد أن يقول: إن بندقية ياسر عرفات توجهت الى ناحية غير العدو الصهيوني، وحتى حين قاتل هنا وهناك ،وحوصر في هذه العاصمة ،أو تلك، فإنه كان يقدم شيئاً ليأخذ نظيره من أجل فلسطين.
كل الفلسطينيين ينادون به شهيداً، ولا ينهرهم بقية العرب، بينما شعوب الأمة تطارد حكامها وتلعنهم، وقد تختلف فيهم، والذي كان يستجدي العطف منهم صار مثلاً في النزاهة والتضحية، وحين رحل الى الموت من رام الله الى باريس، لم يبخل بإبتسامته الشهيرة, وكان مودعوه يلوحون له, ويبكون, ويتوسلون, ويجرون هنا وهنا في مساحة المقاطعة، ولم يحتج الى حجر أو زنقة أو آله قمع.
تحركت روحه الآن من المقاطعة الى كل أقنية الإعلام في العالم وصرخت أن الرئيس قتل مسموما من قبل عملاء الموساد ،وإن إسرائيل اللقيطة هي التي دبرت الجريمة وإرتكبتها ظنا منها أنها ستمضي وتطوى مع الزمان،لكن عرفات يأبى ذلك وقرر فضح الجناة.
يحفظ الفلسطينيون صوراً كثيرة لياسر عرفات، وأجملها صورته وهو يبتسم، أفلا يستحق منهم دمعة؟ حينها يلتقيان (دمعة وإبتسامة).