نعيم عبد مهلهل
ظلت الطائرات بعيدة عن المرأى القريب لعيون المعدان، فليس لديهم واسطة يتصلون فيهابأرض الله سوى المشحوف، وإذا أرادوا أن يحلموا بالطيران فإن البط والزرازير تنوب عنهمفي التحليق.
ولكنهم يسمعون أن هناك حديداً يطير ويحمل المسافرين، والبعض ملتصق بمؤخرتهفوهات مدافع ترمي قذائف الدان، وأول ما سمعوا بأخبار طائرة الهليكوبتر كان منحكايات أبنائهم الذين ذهبوا لتأدية خدمة العلم، وذات يوم رأيت عيون أهل القرية شاخصةبذهول إلى الشاشة البيضاء يوم أتت إلى قريتنا السينما الجوالة حيث عرضت فيلماًوثائقياً عن تصميم طائرات البوينغ العملاقة في المصانع الأمريكية، وقتها تخيلوا أنأمريكا لا تصنع طائرات تطير، بل قصوراً تحلّق في الفضاء لتصل القناعة عند أحدهم فيهمسه لي أثناء تسمّرهم على شاشة القماش البيضاء التي يُعرض عليها الفيلم قوله: لهذايقولون هناك قصور فخمة في الجنة التي في السماء.
يطلق أبناء قريتنا على طائرة الهليكوبتر اسم الجرادة، وهذا الاسم يعود إلى طرفة ربماهي ليست حقيقية تقول: إن طائرة هليكوبتر حطت لأول مرة قرب سلف في إحدى مناطقالريف، فتعجبوا وفزعوا وخافوا وهربوا داخل بيوتهم، وحين أرادوا معرفة هذا الشيءالمخيف ذهبوا إلى عرّاف القرية وفريضتهم ليفسر لهم ما هذا الشيء.
تقدم الرجل من بدن الطائرة الجاثمة في اليابسة القليلة، لمسها بخوف، ثم قال لأهل قريته: لا تخافوا هذا فحل جراد……!
ذات يوم جاء إلى قريتنا رجال من قسم زراعة الجبايش من أجل تحديد أرض صلبة فيالقرية تهبط عليه طائرة الهليكوبتر التي يُراد لها رش مساحات القصب بالمبيدات، وكذلكرمي ملايين من أصابع أسماك الكارب لأجل تطوير أنواع السمك في الأهوار.
ارتاب أهل القرية من هذا الزائر الحديدي، وحاروا أين يختارون المطار الذي تهبط فيه،وخافوا على صرائفهم حين أخبرهم أحد المعلمين أن لهذه الطائرة مروحة لحظة تقترببدورانها من الأرض تحدث عجاجة أقوى مما كنا نسميها في الدارج الشعبي (فسوةالواوي)، فخاف أهل القرية أن تطير زرائبهم والصرائف وسوابيط نومهم، وعلى الرغم منهذا فإن أمر الحكومة لا مفر منه حتى مع انزعاجهم وقلقهم وعدم رضاهم على مجيء هذاالضيف الثقيل.
اقترحت أنا أن يكون مطار الجرادة الحديدية أمام المدرسة وبعيداً عن بيوت القرية، فكانالقلق أن التربية ستحمِّلنا المسؤولية إذا طارت الصفوف والإدارة بسبب (فسوة الجرادة)…
ضحك شغاتي، وقال: أينك أيها الثعلب لقد سرق منك الجراد ريحكَ.
ضحكنا، تذكرت رواية لدي إج لورنس اسمها الثعلب، لكن ثعلب لورنس الإنكليزي لم يكنيشبه ثعلبنا، فقد كان لنظرته حسٌّ غرامي، أما ثعالب أم شعثة فلا تعرف سوى تأجيجالغبار وسرقة الدجاج.
في صباح اليوم الثاني، كان الجميع في انتظار الجرادة الهليكوبتر لتهبط في مطارهاأمام المدرسة. وقد انتظرها الجميع مصطفين، ولم يذهبوا يومها مع جواميسهم إلىمراعيها داخل الهور، تركوها تذهب وحدها، وحتى أنظِّمُ استقبالاً يليق بأول طائرة تهبطفي مطار أم شعثة (الدولي)، رتبت وقوف الرجال بصف والنساء في صف أبعد فيما جعلتالتلاميذ في المقدمة كتشريفات للطيارين وموظفي الحكومة الذين سينزلون من الطائرة،وكم كنت أتمنى أن يكون هناك جوقة موسيقية، لكني طلبت منهم أن يصفقوا بدلاً منالجوقة.
كان المفروض أن تصل الجرادة الحديدية في الساعة التاسعة، عندما أخبرونا أن طريقهامن الجبايش إلى قريتنا لا يستغرق سوى عشر دقائق، لكنها لم تصل حتى الساعةالواحدة ظهراً، حيث اشتدت حرارة الشمس، وتعب أهل القرية من الوقوف، فأشرت إليهمبالعودة إلى بيوتهم وأنا أستعيد في ذاكرتي آخر بيت من قصيدة كافافي (في انتظارالبرابرة) ولكن بتصرف:
(والآن من دون هليكوبتر.. ما الذي سيحدث لنا
تلك الجرادة كانت حلاً من الحلول)………