لا يحتاج الى مزيد من التدليل الجزم بأن الناصرية واهلها
مفطورون على السياسية والشغف بها، والرغبة في ممارستها
على مختلف الاصعدة، ومن مختلف المواقع، ويسري هذا الحكم
في المركز والاطراف على حد سواء.
طبع المزاج اليساري الرافض والمعارض معظم النشاط السياسي
للناصرية، وكلفتها مواقفها المناهضة من الحكومات والانظمة الكثير
الكثير، وانعكس ذلك جليا على اوضاعها العامة والخاصة.
يربط وعيها السياسي العام، ونخبوية تفكيرها الى جذور حضارية
تمثل مرتكز حضارة وادي الرافدين، وفي ذات الوقت، يمدها حاضر
منشغل حد الاستغراق في جدل الوعي والفكر والادب والفن، ويسري
هذا حتى على منظومتها العشائرية والتي تتميز بلونها الخاص.
من المفارقات، ان المدينة مدت معظم الانظمة على طول تاريخ
العراق المعاصر بشخصيات ونماذج تسيد الكثير منها مراتب
متقدمة في السلطة إلا ان ذلك لم ينعكس بشكل جوهري
وعملي على واقع المدينة وحياتها.
على الرغم من الامتداد الحضاري العميق للمدينة، وتراكم الوعي التاريخي فيها،
وحجم المنجز الادبي والفني لها، إلا ان ثقافة حب الحياة والفرح لم تجد لها سبيلاً
ميسراً في المزاج العام، وظلت نوائحية التهميش السياسي، وقهر الانظمة، وجور
الطبيعة، وموروث الحزن من السلف الحضاري، تطبع الحالة العامة للمدينة وأهلها،
ويمكن تلمس ذلك بوضوح في منجزها الشعري والغنائي، بل وحتى في النسخة
الدينية الخاصة بها.
انعكست الخصوصية العشائرية والثقافية للمدينة على كافة النشاطات فيها، بما
في ذلك فروع الاحزاب والتشكيلات السياسية وجماعات النشاط السياسي في
الفضاء العام التي تنشط في المحافظة، وقد اثر ذلك على خارطة تدافع القوى
فيها، وانتج انموذجاً يختلف عن كل المحافظات.
على مر التاريخ العراقي المعاصر، لم يقدم اي نظام او حكومة مقاربة تعاطي
سياسي او امني او حتى ثقافي، تراعي هذه الخصوصية، وتوظف الجانب الايجابي
فيها، بل كانت في معظم الاوقات في آخر قائمة الاهتمام.
يوجد استياء عام من سوء الاوضاع المعيشية وطبيعة الخدمات
في المدينة التي تسجل تراجعا في كل شيء، ويظهر السخط من
هذه الاوضاع في الحديث العام إلا ان التظاهرات التي تشهدها
المحافظة منذ سنوات كحراك متصل بتظاهرات المحافظات الاخرى
او منفصاً عنها، لا يكاد يعبر بشكل متطابق او حتى متقارب مع
صورة المشهد العام الرافض، بحيث صارت في بعض الاحيان
جزءاً من معاناة المدينة نفسها، جراء تداخل العناوين والاطراف،
وصراع الارادات، وتغالب المواقع.
يلعب كل المستثمرين في الصراع الذيقاري على حالة انسداد
الافق، والتي تكرست بشكل كبير جراء الفشل في تقديم مقاربات
حلول عميقة تأخذ خصوصية المدينة واوضاعها بعين الاعتبار،
وقد غذى )انسداد الافق( حالة العنف في كل مرة، ودفع المعظم
الى النهايات المسدودة مما خلق يأساً من الحلول، ورغبة في
راديكالية اكبر.
يمثل التحدي الاكبر امام الحكومة وامام جميع الاطراف القلقة والمحبة للناصرية
في كسر جمود اليأس، وفتح افق لتسوية الامور بشكل عملي، ان تصل الاطراف
المفجوعة اشارات صادقة، تتراكم لتخليق قناعة بأن هناك رغبة حقيقة لاصاح
اوضاع المدينة، وتغيير صورة العيش البائسة فيها، وان يكون كل ذلك ملتفتاً الى
خصوصية المدينة وعمقها.
ان التهاون او اهمال الاوضاع في المدينة، والمراهنة على الحلول المسكنة، سيبقي
اوضاع المدينة قابلة للانفجار دائما.
مهما كانت الجهود الحكومية جادة وصادقة ومؤثرة فإنها لن تبلغ المهمة التي
اشرنا إليها ما لم )تشارك كل الاطراف الايجابية في المحافظة وخارجها في الانجاز،
ويتم توزيع منطقي للمسؤوليات والتكاليف، ويقرر الشعب الذيقاري تجاوز نوائحية
الشجن واستبدالها بحب الحياة، وان يجري تفكيك مخالب التغالب المغروسة في
جسد المدينة وقلبها(.
كلمة )في( و )ل( الناصرية..
(Visited 8 times, 1 visits today)