د. أحمد مشتت
في عام ١٩٨٤ رقد ابي في الطابق الخامس من مدينة الطب في بغداد عليلاً. كان قد فقدمعظم وزنه وكان يشكو من آلام مبرحة في بطنه. بعد اجراء الفحوصات تبين ان هناك ورماًفي كبده وقرر الجراح المسؤول عنه اجراء عملية جراحية طارئة.
كنت لم ازل طالبا في كلية الطب في نهاية المرحلة الرابعة واضطررت للبقاء معه ومرافقةرحلة آلامه العسيرة.
في اليوم الذي اجريت فيه العملية الجراحية طلبني الجراح المختص لانزل الى صالةالعمليات للتحدث معي.
كانت تعابير وجهه وحركة يديه اليائسة تخبرني انه كان عاجزا عن فعل أي شئ لان الورمكان منتشرا ومن المستحيل ازالته.
في تلك اللحظات دخل ابي غيبوبة نهائية ولم اتمكن من وداعه.
عرفت في تلك اللحظة معنى ان يكون الطبيب عاجزا عن فعل اي شئ امام هذا القاتلالخفي مرض السرطان.
كان قدماء المصريين أول من وصف هذا المرض منذ آلاف السنين
ويعتقد ان اقدم توثيق للإصابة بمرض السرطان فى العالم جاء في بردية مصرية قديمةتعود ل حوالي 1500 قبل الميلاد، وجاء فيها وصف لـ8 حالات من اورام في الثدي، جرىعلاجها عن طريق الكى الذى يساعد على تدمير الأنسجة التالفة.
ظهرت اولى بوادر علم السرطان كما نعرفه اليوم على يد العالم والطبيب اليوناني ابقراط (410-360 قبل الميلاد) والمُلقب بأبي الطب . حيث وصف الأنواع العديدة من الأورامالسرطانية مثل سرطان الثدي والرحم والجلد والقولون. ويعتبر هو أول من سمّى الأورامالخبيثة بالسرطان (Carcinoma) وهي مشتقة من الكلمة اليونانية Karkinos والتي تعنيحيوان السرطان البحري، ويعود سبب تسمية المرض بهذا الاسم إلى أن الأوردة المتفرعةالتي تحيط أحيانا بمنطقة الورم تكون شبيهة في شكلها بحيوان السرطان.
أما ابن سينا الفيلسوف والطبيب فقد خصص الفصل العاشر من كتابه القانون في الطبللأورام ،وأشار فيه إلى العلاقات الدالة على الأورام ومنها الظاهرة والباطنة.
وكان ابن سينا أول من تحدث عن وجوب التصدي لعلاج السرطان، وكان صاحب نظرية انالسرطان إذا استؤصل في أول أعراضه شفي المريض منه.
ووصف أبو القاسم الزهراوي في الأندلس العديد من الأساليب الجراحية لاستئصالالأورام .ويقول في كتابه التصريف لمن عجز عن التأليف ” يجب أن يكوى مكان الورمالسرطاني بشكل دائري) فهو يسعى إلى السيطرة على امتدادات الورم من كافة الجهاتوللتأكد من أن أطراف الأنسجة التي أزيلت لا يوجد فيها امتداد للمرض وهذا يعتبر الانمن الاسس المهمة في علم جراحة الاورام السرطانية.
ويعد كتاب الزهراوي هذا مرجعا مهما لجراحي أوروبا لخمسة قرون كاملة.
وكان الجراح البريطاني السير بيرسيفال بوت أول من أثبت العلاقة بين العوامل البيئيةوالسرطان في القرن الثامن عشر؛ مشيرًا إلى انتشار سرطان الجلد بين الأشخاص الذينيقومون بتنظيف المداخن نتيجة تعرضهم للقطران.
وشهد القرن التاسع عشر اكتشافات علمية هائلة ساعدت الإنسان على سبر اغوار المرضحيث اكتشف العالم الألماني مولر عام 1838 أنّ مرض السرطان يتكون من خلايا تتكاثربطريقة شاذة، وبالتالي تمّ كشف الطابع المرضي لهذا المرض، وقد أدى اكتشاف التخديروالطرق الحديثة للتعقيم إلى تطور كبير في جراحة السرطان في العصر الحديث، وهوالأمر الذي مكن الجراح الأمريكي ويليام هالستيد عام 1891 من إجراء عملية استئصالجذري كامل لسرطان الثدي.
المعروف الان ان سبب تكون السرطان بيولوجيا هو حدوث تغييرات جينية ( تلفالحامض النووي) تؤدي الى انقسام الخلايا غير المنضبط التي تؤدي الى تكون الورم. وترتبط انواع السرطانات باسباب بيئية مثل التعرض لاشعة الشمس والتلوث الشعاعيوالكيميائي. ومن عوامل الخطر ايضا السمنة والتدخين والتغذية غير الصحيةوالشيخوخة.
علاج مرض السرطان والشفاء منه اصبح ممكنا الان بفضل التطور الهائل في قدرةالاطباء على التشخيص المبكر.
هناك بعض الاورام السرطانية يتم فحصها بشكل دوري حتى بدون ظهور اعراض في مايسمى بالتحري Screening مثلما يحصل في التحري عن سرطان الثدي لكل النساء فوقعمر 45 عاماً وكذلك التحري عن سرطان البروستات عند الرجال عن طريق فحص الدم.
لا شك ان المستقبل في علاج امراض السرطان مشرق. هناك طرق جديدة مدار البحثالمستمر مثل صناعة لقاحات خاصة والعلاج المناعي باستخدام خلايا الدم البيضاءالتائية من المريض وتحفيزها جينيا لتدمير الخلايا السرطانية. وسيلعب العلاجباستخدام تحرير الجينات gene editing دورا خطيرا في العلاجات وهذه التقنية تتيحللعلماء التخلص من أحد البروتينات الرئيسة التي تسمح للخلايا السرطانية بالتكاثرخارج إطار رقابة أو سيطرة الجسم.
وهناك طرق للاستفادة من الكائنات المجهرية مثل استخدام الفايروسات لقتل الخلاياالسرطانية.
قال لي ابي في فترة اعتلاله ان داءه كان بسبب رقاده في اقبية السجون الرطبة وهوالسجين السياسي الذي فقد نصف عمره في سجون البلاد القاسية من الحلة الى نقرةالسلمان. لم يكن ابي يعرف وهو على شفا الغيبوبة انني ساستعيد دائما ما قاله ليالجراح في لحظة اليأس تلك في صالة عمليات الطابق الخامس.
استعيدها وانا اقود مرضاي في رحلتهم مع هذا القاتل الخفي السرطان
لنهزمه معاً
استعيدها وانا ارى على وجوههم ابتسامة انتصار واثقة.