قصيدة النثر الى اين؟

قصيدة النثر الى اين؟

هل استخدمت عشوائيا ام ضاع تجنيسها؟

قحطان جاسم جواد

قال احد الشعراء…أتذكّر حادثة طريفة في مقهى حسن عجمي , أيّام احتدام الحوار عن قصيدة النثر وآفاقها وفضاءات الاشتغال بها , وكذلك الرفض الكبير لها من قبل المؤسسات الثقافية الرسمية , باعتبارها شروعاً بتدمير اللغة العربية وقواعدها , والخروج بالشعر عن محدداته التقليدية  التي عرف بها ,الحادثة التي حدثت في تسعينيات القرن الماضي ,هي أن أحد شعراء الثمانينات كان يمزح مع جليس له في المقهى , حيث قال له بشيء من التهكم والسخرية : لماذا لا تصبح شاعرا ؟والامر يخص قصيدة النثر بالتحديد وما افرزته اليوم. حيث صار استخدام القصيدة النثرية عشوائيا وبلا ضوابط. فهي النصوص السردية المباشرة التي تسقط في مستنقع ضياع تجنيسها , فلا هي قصة قصيرة , ولا هي شعر نستطيع أن نجعله ضمن تجربة قصيدة النثر. في هذا الاستطلاع نجد اجوبة لما ذهبنا اليه.

نتاج الهاجس الرافديني

الشاعر فاروق سلوم من السويد قال:- عن قصيدة النثر – اجيب من زاويتين ، الأولى ان قصيدة النثر هي شكل من اشكال الكتابة المكثفة التي تستجيب لدواعي التحديث في اشكال الكتابة وتتأثر بالترجمة وتعطي شكلا ممكنا للنص الشعري العربي لينتشر ويصبح ممكنا في الترجمة والنقل. وهي في العراق مثلا – كما حصل في الشعر الحديث-  نتاج الهاجس الرافديني نحو التجديد لأن قواعد الثقافة العراقية، وبخاصة في الكتابة وفنون الأبداع تقوم بقوة على الصرامة في اتقان الكلاسيكية في الكتابة وحتى الرسم . لذلك يولد الرافديني وفي جوفه دفق من ميول نحو التجديد وكسر قواعد الصرامة المغلقة نحو فضاء ابداعي مختلف. مثلما هو الحال في ميل الرافدينيين للأتصال بالأنواع الأبداعية المختلفة وبالثقافات وادخال اللمسات التجديدية على اشكال الكتابة التقليدية والكلاسيكية التي اثمرتهاالثقافة العراقية لأجيال متوارثة.

الزاوية الثانية هي ان وسائل الأتصال الحديثة والميديا الأجتماعية ، الغت فكرة الكاتب الكبير او الشاعر الأوحد الخ الخ ، و اتاحت مجانا فرص الكتابة للجميع ليقولوا رأيهم ويسمعوا اصواتهم مكتوبة  حتى ان ازدهار الشعبوية في الكتابة واطلاق الرأي وتعدد الآراء اصبحت ظاهرة عامة مطلوب دراستها . نجد مثلا ان هناك الكثيرون والكثيرات ممن اصبح يضع كلمة الأديب او الكاتب امام الأسم  وهو امتيازمجاني يسرته وسائل الأتصال الشعبوية بشكل كشف انهياراتنا العربية في التعليم السيء و اللغة المليئة بالأخطاء والكتابة واستسهال عرض النصوص والرسوم والموسيقى لدرجة اصبح من الصعب تدارك مايحصل. اننا بحاجة الى وقت لتنضج قواعد الكتابة ان كان في قصيدة النثر التي اصبحت حقيقة موجودة بين اشكال الكتابة او في تصحيح الأخطاء العامة الفاحشة على صفحات الميديا الأجتماعية التي ترسم ملامح سلبية لما وصلته ثقافتنا العربية اليوم.

قصيدة النثر والتوائم مع المعنى

وقال الشاعروالناقد احمد البياتي: تتميز العديد من قصائد النثر بصيغة تعبير نوعية ، حيث يتأثر تجانس التعبير فيها بمظاهر عديدة تتعلق بالأحداث.والشاعر هنا يستخدم كل شكل وكل كلمة وكل تعبير في معناه المباشروغيرالمباشر كتعبير خالص وآني لقصده،شريطة ان لاتكون هناك أية مسافة بينه وبين كلماته،القصيدة تهدف دائما لوحدة اللغة وخاصة بفضل الإيقاع الذي يَحِدُ من نشر بعض الصور ويقوي الطابع المغلق والموحد للإسلوب الشعري،وكما هو واضح ان نظام تعدد الاصوات شائع في قصيدة النثر، حيث ان وحدة الغرض متأثرة باليات متنوعة،فعلى سبيل المثال يمكن للمتحدث ان يتلاشى خلف متحدثين آخرين ، ويتحدث بصورة مباشرة ناقلا صياغات خاصة او تعابير فيها محاكاة ذاتية ، لانه يوجد في قصيدة النثر نوع من التحفظ لايعبرعنه تعدد نظام الاصوات الصامتة ولا مخاطبة القارىء على اعتبار ان شاعر قصيدة النثر هو انسان يمكث مترقبا ومتأملا ومناجيا للإتحاد مع الآخر مبديا معاناته عبر رؤية غريبة .قصيدة النثر تلفت النظر بتوزيع اصيل للفقرات التي تتوائم مع المعنى التي تشير الى اجزائها او موضوعاتها الثلاث ( الإطار والحدث والخاتمة ) لتعزيز الاستطراد ببناء دلالي متجانس،ففي بعض القصائد نجد ان الأخيلة تحتل مكانة مهمة في عالم الشاعر،لتصبح صوره الشعرية ذاتية مسرودة،في حين نرى قصائدا اخرى على هيئة سرد غريب. يتخذ شكل الخرافة ، ولهذا النوع من النصوص هيئة خاصة ترتبط بظروف شخصية ، قصيدة النثر تتسم بانطلاقة نثرية كونها لاتبدو اقل رصانة في ابعادها ، فهي في اغلب الاحيان مجموعة موجزة من الجمل القصيرة برنين موسيقي او بدونه، لتصف لنا بكل بساطة شيئا ما،أو تروي لنا حدثا حقيقيا او خياليا بصورة واضحة. وهناك الكثير من قصائد النثر نراها بعيدة عن الصياغة الحرفية في التجسيد ،كما ان كتابها هم ليسوا على معرفة تامة بماهية وتوجه قصيدة النثر .. فمن خلال عملي كمسؤول للصفحة الثقافي بجريدة البينة الجديدة، اجد الكثير من النصوص التي ترسل لي من قبل البعض من الكتاب لاتحمل صفة القصيدة النثرية وانما هي مجرد محاولات وتصفيط مفردات يعتقد كتابها ان تدخل حيز القصيدة .. ان قصيدة النثر هي عبارة عن صورة مكثفة تحتوي الفكرة والمعالجة في آن واحد مع انتقاء المفردات التعبيرية المختزلة التي تعطي للنص النثري القوة والرصانة والوضوح مع تعزيزها بموسيقى الكلمة الهادفة والمعبرة.

اصعب انواع الكتابة الشعرية

وقال الشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف حول الموضوع:-

يتفقُ النقادُ والشعراءُ ودارسو الأدب الحديث والمعاصر،على أنَّ قصيدة النَّثر وفق اشتراطاتها الحقيقيّة هي من أصعب أشكال الكتابة الشّعريّة،وليس أدل على ذلك من مقولة (أندريه بريتون ) التي أكد فيها : ” ما مِنْ شيءٍ أصعبُ هذهِ الأيام ،منْ أنْ يكونَ الإنْسان، شاعر قصيدةِ نثر”. ومن المعروف أنَّ قصيدة النَّثر بشعريتها الفارهة لا تعتمد على القوالب الإيقاعيّة والوزنيّة الجاهزة في كتابتها كما في قصيدة العمود والتَّفعيلة .وقد استعصت على القياس بكلِّ الأشكال الشِّعريّة السَّابقة،لذا فقد شكلت خرقاً للمألوف، وأقتربتوتشابكت مع الأجناس الأدبيّة الأخرى،لكنها بقيت منذ أكثر من خمسين عاماً كياناً مستقلاً ومتفرداً باشتراطاته الفنيّة والجماليّة. فقصيدة النّثر تعتمد التّكثيف وتدفق الصور الشِّعريّة وترابطها وصولاً إلى الدَّهشة التي تُحدثها لدى المتلقي فيما يتشكل إيقاعها من التوازي والنبر في الحروف والجمل والتّضاد في المفردات وتناغم موسيقاها وبذا يكون لكلِّ قصيدة نثر إيقاعها الذي ينطلق من الحالة الشّعورية التي يكتب تحت احتدامها الشّاعرُ حتى أنَّ (سوزان برنار) وصفت ذلك الإيقاع بأنَّه :يسري كما يسري تيارٌ كهربائيٌّ ،غيرُ مرئيٍّ ، عبر سلك غليظ ليغرقنا بالنُّور فجأَةً .” أما ما يتعلق بكثرة من يكتبون قصيدة النّثر، فلا بأس بذلك لأنَّ ما يبقى هو الشّعر الحقيقيّ والرَّصين، “وأنَّ القابضين على جمرة قصيدة النّثر قليلون ” كما يقول بذلك أستاذ النقد الحديث أ . د . عبد الرّضا عليّ .وكل ما عدا ذلك يذهب كما الزَّبد ويظلّ مجرد خواطر عاطفيّة قد لا تكتمل فيها حتى شروط كتابة الخاطرة، رغم المساحات التي أتاحتها لهم مواقع التّواصل الاجتماعيّ . وأما ما يتعلق بالسَّرد فهو ضروري في قصيدة النَّثر وتختلف أشكالة وتتنوع،ويجب توظيفه لصالحِ الوظيفة الشِّعريّة، الَّتي تهيمن على بنيات الخطاب وإنتاج جمالياته،الشَّأن الَّذي يغدو معهُ السَّرد عجلة تدُورُعلَيها الفاعليّةُ الشّعريّةُ ، وما عدا ذلك فهو سردٌ مملٌ لا وظيفة له وهو أبعد ما يكون عن قصيدة النَّثر.

قصيدة النثر هي التفرد والخروج عن المعايير السابقة

وقال الشاعر جاسم العلي:- باعتقادي أن التعميم عجزا أو قصورا عن استيعاب الحداثة ،ودورها في رفد التراث الأدبي الإنساني الإبداعي بالجديد. فإذا قلنا اليوم قصيدة ( قصيدة النثر ) ضمن إطار حركة الشعر الحديث فإنما نعود إلى محاصرة المبدع بمجموعة ثابتة من القواعد. لأن قصيدة النثر هي الايغال والتفرد والخروج من كل المعايير والمقاييس السابقة، ليس الشعر المنظوم فقط، بل حتى شعر التفعيلة فيما بتعلق بالوزن والقافية، وبحور الشعر العربي. لكنها لاتتخلى عن أغراض القصيدة من مديح وغزل وهجاء ي مقرونة على ثورة على القابلية بالتفكير والتعبير ،لأن تكسير بنية القصيدة العربية التقليدية، أو هدم شكلها العروضيالخليلي، ذهبت بذلك إلى تجديد الرؤية الشعرية الفنية والفكرية.وهنا يظهر المشروع الشعري في اعادة صياغة مفهوم الشعر ووظيفته ليصبح مشغل متجددا للشاعر،فالمضون الشعري هو الذي يفرض الشكل المناسب او يمنح الشكل لما لاشكل له، والا هل كان أدونيس او السياب او درويش على غير دراية بعلم العروض ،او بحور الشعر العربي. ولكن كان هنالك مشروع شعري يعطي دفقا جماليا ومعرفيا لمشاريعهم الإبداعية وتفاعلاتها الإنسانية بالدراسة والمعرفة والتجريب، قد رسمت صورة المجدد من خلال ثقافته ووعيه.ولأن قصيدة النثر شكل من أشكال التعبير الشعري كما يقول ( د. خالد سليمان ) يحمل من الشعر شعريته ،ولا يحمل من شكله ما يتعلق بنظام الكتابة واوزانه وايقاعته، فإن قصيدة النثر نوعا ادبيا ثالثا يضاف إلى النمط الشعري والنمط النثري. ولابد من مشروع فيما يتعلق بالكتابة ورؤى متجددة. فشاعر قصيدة النثريختاربإرادة واعية بناء قصيدته ،وهذا نوع من الانتخاب والقصيدة وإلارادة ،آلتي تعني هنا المعرفة والمشروع وعكس قدرته الإبداعية والفنية على الخلق والابداع.

(Visited 25 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *