«رسائل إلى شاعر شاب»… تأملات في  الكينونة والعزلة   / اوس حسن

«رسائل إلى شاعر شاب»… تأملات في الكينونة والعزلة / اوس حسن

…………………………

أوس حسن*

لعلّ ما يميّز الشاعر والكاتب النمساوي راينر ماريا ريلكه(1875- 1926) عن بقية شعراء الحداثة الرومانسيين، هو رحلته الباطنية إلى أعماق النفس الإنسانية وما تعتري هذه النفس من تصورات وإدراكات وأوهام عن العالم الخارجي، وقد عُرف عن ريلكه أنه شاعر الحب والموت، فهو يربط بينهما بطريقة ساحرة وعجيبة. وعُرف أيضاً بحساسيته المفرطة تجاه العالم الخارجي، فكان شاعر المجاهيل المعتمة وعرّاب العزلة والقلق العميق.

كتاب لفهم الحياة وأسرارها                                                                  «رسائل إلى شاعر شاب» (الصادرعن دار الرافددين 2019, ترجمة حنين الرحيلي ) يضم مجموعة من المراسلات التي تمت بين شاب طموح وقلق يدعى فرانز أكسفر كابوس في التاسعة عشرة من عمره، الطالب في الأكاديمية العسكرية، مع الشاعر ريلكه, ودامت هذه المراسلات ما يقارب ست سنوات، جمع فرانز هذه الرسائل عام 1929 بعد وفاة ريلكه بثلاثة أعوام، وهي عبارة عن الإجابات فقط ونشر منها عشر رسائل ضمها الكتاب بين دفتيه.

ففي عام 1903, عندما كان ريلكه في أوج شهرته ومكانته الأدبية العالمية، وكان في سن الثامنة والعشرين، مرّ بمرحلة من الضجر أو الخمول الإبداعي، فجمعته مراسلات مع كبار الأدباء والفنانين، تزجية للوقت وتحفيزاً لنشاطه الفكري والإبداعي، وهذا لم يمنعه من رسائل أيضاً مع شبّان مغمورين وشعراء ناشئين، وكان من ضمنهم فرانز كابوس، الذي ستصبح رسائل ريلكه إليه مرآة كونية تنصهر فيها الأنا مع الآخر، والتي ستُعتبر في ما بعد من أهم منجزات ريلكهالفكرية والفلسفية.

 

 

ملامسة المصير الإنساني

لم تكن مجرد رسائل أو كتاب يتضمن أدب المراسلات مع شاعر شاب، إنما تمحورت الكثير من الرسائل حول مواضيع جوهرية تلامس الإنسان ومصيره، وهي نابعة من رؤية ريلكهالفلسفية العميقة في الحياة، ومن حدسه وتأملاته في الأشياء والموجودات، أضِف إلى ذلك طاقة كبيرة تنفجر من وعي ريلكه الحاد وفكره السامي في تقديس الحياة وحبها، فالحياة دائماً على حق حسب تعبير الشاعر، وما يحدث للإنسان من أمراض وحروب وقلق وكآبة هي مجرد تحولات كبرى، تعقبها ولادات جديدة، والحياة تحول دائم, وكل جيد أو سيء هو تحول أيضاً، فالأشياء يجب أن تحدث وأن تمر على الإنسان بدون تدخل العقل في إصدار الأحكام والمحاكمات، بل لا بد أن يكون مراقِباً ذكياً لتمرحل الإنسان في دوامة الحياة الشائكة والمعقدة، كما أنه يؤكد على قوة الإرادة الإنسانية؛ تلك الإرادة التي تبقي الإنسان حراً رغم القيود التي تكبل العالم والبشر.

يركز ريلكه كثيرا ًفي إجاباته عن رسائل الشاعر الشاب فرانز كاوبوس على مفهوم فرح الكينونة والتسليم باللحظة الراهنة خارج الزمن، التي من الممكن أن تصبح لحظة أبدية في حياة الإنسان.

«يجب أن تعيش الحياة لأقصى حد، ليس بناء على كل يوم، ولكن بناء على عمق كل يوم»

الإيمان الحقيقي والعميق بفكرة ترافق الإنسان طيلة حياته، قد يمنح حياة المرء إشراقا وإيقاعاً ساحراً، عكس اللهاث المستمر وراء التماعات  كاذبة والانجرار إلى فخاخ ينصبها الوهم في خريف العمر. نستطيع أن نرى هنا كم بلغت بصيرة ريلكه من الغزارة والاتساع العظيم، فصار يرى في الفن والجنس تكاملاً إبداعيا، وشهوة معرفية قادرة على الخلق والولادة، سواء كان في الجسد أو الروح، فكلاهما يتساويان في الغاية الوجودية والمعرفية. يُعبّر ريلكه بطريقة عدمية استثنائية عن امتنانه العظيم للحياة وعن فرح الكينونة الذي يجب أن يغمر الإنسان حتى في أقصى حالاته تشاؤماً وكآبة.

« إلهي.. كم تكمن روعة الحياة تحديدا ًفي عدم قدرتنا على توقعها، وفي الخطوات الغريبة النابعة من عمى أبصارنا أحياناً. خُلقت هذه الحياة بصدق شديد لكي تفاجئنا،لالترعبنا. ينبغي على المرء تحويل أكبر إمكانية في داخله إلى مقياس حياته، لأنّ حياتنا فسيحة جداً، للحد الذي يمكنها أن تسع أكبر قدر ممكن من المستقبل الذي باستطاعتنا تحمله».

لماذا نكتب وما هو الدافع الحقيقي للكتابة؟

تبتدىء أولى رسائل ريلكه إلى الشاعر الشاب في باريس 17 فبراير/شباط 1903 بالتأكيد على الدافع الحقيقي للكتابة، فهو يطلب منه أن لا يسأله وأن لا يطلب منه النصح أوالمساعدة، إنما عليه أن يلتفت إلى ذاته، وملاحظة هل هذه الكتابة ترسل جذورها إلى الأعماق؟ « اسأل نفسك هل ستموت لو حُرمت منها؟». إنّ العمل الفني رائع فقط لو نشأ من دافع الحاجة. في هذه الرسالة ومعظم الرسائل يؤكد ريلكه على الشعرية وأن تحيا شعرياً على هذه الأرض وفي الأعماق، فالشعر الذي يبقى ملاصقاً للكينونة وحركة الأشياء من حولنا يمنحنا النضج المختلف والوعي الصافي النقي والإدراك المتوهج، إنه الوجود المثالي الذي تخلقه المخيلة العظيمة، ويبقى مرادفاً وملاصقاً للوجود اليومي والمُعاش، حتى في أدق وأبسط التفاصيل اليومية. إضافة لذلك فالكتابة عند ريلكه أيضاً عبارة عن خبرات متراكمة من القراءات والتجارب الشعورية والحسية، والوقوف الحقيقي عند حافة الخطر ومواجهة الصعاب، ومن هنا تنشأ بذرة الإبداع الذي يغذيه الجوع المعرفي والأسئلة الوجودية الكبرى. كما أنه لا يخفي تأثره العميق وإعجابه الدائم بكتّاب وفنانين منحوه الخبرة وخلود الإبداع؛ مثل الروائي والشاعر الدانماركي جيكبسون, والنحات الفرنسي روداين.

وفي رسالة مؤرخة بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 1903 , ينصح ريلكه الشاعر الشاب فرانز كاوبوس أن يكون قريباً من الجمادات في وحدته، وأن يربّي عزلته الباطنية الفسيحة مع هذا السكون الغامض والمؤلم، الذي ينبض في قلب الأشياء وجمودها المخيف، وهذه أيضاً إحدى تجارب ريلكهالشعرية العظيمة في تحويل الجمادات إلى رموز شعرية ونفسية.

 

 

 

عزيزي السيد كاوبوس:

إن لم يكن هناك ما يمكنك مشاركته مع الآخرين، فحاول أن تكون قريباً من الجمادات، فهي لن تهجرك، وستظل هناك الليالي والرياح التي تتحرك عبر الأشجار وفوق الأراضي، كل ما في العالم من جمادات وحيوانات مازالت ممتلئة بالأحداث التي يمكنك أن تكون جزءاً منها.

الحزن واليقظة الداخلية

يصف ريلكه في إحدى رسائله أنّ الحزن وجود غريب يتسلل إلى بقعة حساسة فينا، شيء جديد ومجهول تنمو مشاعرنا خلاله في صمت وارتباك محرج، فالحزن يمر بنا بسبب ذلك الوجود الذي أضيف إلينا وولج إلى قلوبنا، وغاص إلى أعماقنا، فلم يعد بالإمكان تمييزه، إنه في مجرى دمنا فعلياً، فالحزن هو لحظات من التوتر نشعر بها كالعاجزين لأننا لم نعد نصغي لعواطفنا المدهشة والمفعمة بالحياة.

لكن ريلكه لم يستسلم للحزن وطاقته التدميرية، بل على العكس إنه يؤنسن الحزن ويضفي عليه طابعاً سحرياً وجمالياً، فهذا الوجود المرعب والغريب الذي سكن أعماقنا وبدأ بتغيير مسارات حياتنا، عندما يبدأ بالخروج منّا إلى الآخرين، سوف نشعر بمدى قوة علاقتنا وقربنا منه في دواخلنا، ونكتشف بأنّ ما حدث معنا لم يكن غريباً عنا أو من الخارج، بل كان ملكاً لنا وفي الأصل منذ مدة طويلة.

عزيزي السيد كاوبوس:

« لقد مررت بالعديد من الأحزان الثقيلة وها هي قد مضت، ولكنني أريدك أن تسأل نفسك: ألم تُزل هذه الأحزان الثقيلة في الواقع بإرادتك أنت؟ ربما تُغيّر العديد من الأشياء في داخلك، لقد خضغت لتغيّرات خطيرة بينما كنت حزيناً, كل المشاعر التي تجتمع عليك وتسمو بك هي نقية حتماً. وحده غير النقي هو ذلك الشعور الذي يدرك جانباً واحداً من كينونتك فيشوهك. لهذا السبب من المهم جداً أن تكون منعزلاً ويقظاً عندما تكون حزيناً».

………………….

شاعر وكاتب عراقي

(Visited 65 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *