صائب غازي
أن تسعى القناة التلفزيونية الى تحقيق النجاح فهذا حق مشروع وأن تسعى الى أن يكون لها حضور وكسب أعداد كبيرة من المشاهدين لمتابعة ما تقدمه من خطاب إعلامي وفني فهذا أمر طبيعي خاصة في ظل التنافس المحموم بين القنوات التلفزيونية العراقية ولكن بشرط دائما ما أكرره وهو أن (لا يغيب الضمير) في طريقة العرض وتناول المواضيع والقضايا التي تطرحها القناة لأن ذلك يودي الى رفض كل ما تعرضه الشاشة كما تتهدم الثقة بينها وبين جمهورها فمن غير المقبول أن تقوم خطط التنافس على فكرة الانقضاض على المشاهدين واؤكد هنا على كلمة (الانقضاض) لأن ذلك هو ماتفعله بعض القنوات بشكل خاص والإعلام بشكل عام وهو الانقضاض على الضحية (المشاهد) وافتراس عقله فهي تتربص به بشتى الطرق ومنها عرض افكار جريئة ومثيرة الغرض منها تحقيق المشاهدات والمتابعات والشهرة دون دراسة نسبة احتياج المتلقي الفعلية لتلك الأنواع من العروض المغلفة من الخارج بشعارات وطنية وإنسانية ومجتمعية بينما داخلها ومضمونها يثير الشك والريبة ومن بين تلك الأعمال هي البرامج الاجتماعية باطار بوليسي والتي تتناول الجرائم المجتمعية التي تحدث فتنتقي القناة بعضا من تلك الجرائم وتعرضها على الجمهور بصغاره وكباره ولا أحد يعلم كيف هي الآلية المعتمدة في انتقاء جريمة دون غيرها ومن يحددها كما لا أحد يستطيع تصنيف هذه البرامج مهنيا هل هي تندرج تحت عنوان الصحافة الاستقصائية أم التربص أم الصحافة الميدانية ، في تلك البرامج تجري محاكمة المتهم من جديد حيث يتم اقتياده الى موقع الجريمة واعادة تمثيل الواقعة وهنا تصبح لدينا فريستين هما المتهم أولا بغض النظر عن ارتكابه الجرم أو براءته وثانيا المشاهدين الذين لاينقصهم هموم الحياة لنجبرهم على متابعة مثل تلك القصص التي تبعث على الكآبة وتضيق انفاسهم بها وأيضا تضعهم في حيرة من أمرهم في مدى مصداقية ما يشاهدون وعليه ينقسم الشارع حول تلك العروض ويتساءلون عن ماهية هذا النوع من البرامج وجدواها هذا ماشاهدناه مع حالة الشاب المتهم البرئ في محافظة بابل والذي حكم عليه بالإعدام على جريمة قتل زوجته التي لم يرتكبها وتبين فيما بعد أنها حية ترزق وأن الاعتراف بالقتل قد انتزع منه تحت التعذيب ، الإجراءات القانونية ومسار التحقيق الذي رافق حيثيات القضية لا يعنينا وليست من اختصاصنا والذي يعنينا هنا هو دور الإعلام كعنصر مؤثر في المجتمع يدفع به الى الانقياد بإتجاه واحد نحو المعروض والتصديق به على الرغم من المتتبع لإجابات الشاب على أسئلة المذيع تدلل على غياب الحقائق المترابطة في طرحه لأن القصة والأحداث برمتها لم تكن حقيقية بالأساس فلذلك لم يكن مقنعا في سردها ، ولعله ظهرت على الشاشة مئات من القصص المشابهة وربما دفع اصحابها ثمنا باهضا لأنها لم تحظى بفرصة تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي أو ربما في زمن ما لم يكن لوسائل التواصل وحرية الإعلام أي وجود فمثلا ولغاية عام ٢٠٠٣ كان التلفزيون الرسمي الوحيد المتوفر انذاك يطل علينا بشكل مستمر بمثل تلك القصص يتحدث أصحابها عن جرائم ربما لم يرتكبوها ولكن الغرض من عرضها معروف في تلك الحقبة وهي إشاعة الخوف بين الناس وترهيبهم وليس الردع والتوجيه للمجتمع لأن الجرائم لم تتوقف وكانت في إزدياد مضطرد على الرغم من إحكام القبضة الحديدية المركزية على رقاب الناس ، لكن الفرق في طريقة التناول حينها عن اليوم يتمحور حول عرض اعترافات المتهمين بدون ظهور المذيع البوليسي على عكس مانراه اليوم ومع ازدياد الفوضى الإعلامية التي تعج القنوات بتخمة المذيعين فيها حتى ظهر من بينهم نوع المذيع البوليسي الذي يستقوي على المتهم المنكسر ويسهم في اذلاله وفضحه والتشهير به على الشاشة وتلك البرامج تدور رحاها على الدوام دون توقف وأيضا دون أن نرى نتائج ايجابية تنعكس على المجتمع فمعدل الجرائم لم يسجل انخفاضا ملحوظا كما أن هذه البرامج لم تستطع أن تجعل من عروضها عبرة للأخرين إذن لماذا الاستمرار بإنتاجها سوى كسب اكبر عدد من المتابعين وخلق الإثارة الفارغة بغض النظر عن نوعية المعروض وصناعة نجوم من المقدمين والمذيعين وهذا مؤشر خطير يمكن أن نطلق عليه عدم الشعور بمسؤولية الكلمة والصورة ، ورب سائل يسأل أن تلك الأنواع من البرامج موجودة في المجتمع الغربي أيضا فلماذا يجب أن لاتكون على شاشاتنا أيضا ؟ هي موجودة بالفعل ولكن في قنوات خاصة يطلق عليها قنوات الواقع وهدفها الرئيس هو خلق الإثارة ولكن مع ذلك لا تظهر فيها صورة أي متهم بدون أخذ موافقته خطيا وغالبا يكون بمقابل مادي وإلا تتعرض القناة الى الملاحقة القانونية قد يكلفها الكثير وبشكل عام تلك القنوات هي منفصلة ومستقلة عن القنوات العامة يتابعها من تستهويه هكذا عروض فقط كما أنها ليست أنموذجا يحتذى به حتى تتقبلها مجتمعاتنا بينما القنوات المحترمة التي تهتم لسمعتها وشرف ميثاقها الرسالي والإعلامي تنأى بنفسها عن تلك العروض المتدنية إلا مع حالات استثنائية ، القنوات المحترمة الرصينة تستثمر شاشاتها في تقديم عروض راقية تسهم في بناء المجتمع لا أن تصنع نجما مزيفا على شاكلة المذيع البوليسي الذي يستمتع بلحظات التحقيق الذي يجريه مع المتهم أمام الكاميرات بشكل استعراضي وهو محاط بعدد كبير من الجنود ويستمتع أيضا حين يخاطبه المتهم بكلمة سيدي ويستمتع أكثر حين تصله تهنئة من مدير القناة أو مالكها أو يحصل على بعض التعليقات وعلامات الاعجاب على صفحته ظنا منه أنه قدم منجزا كبيرا ساهم في تخليص المجتمع من الجريمة بينما يكون هو قد أرتكب جريمة حين لا يعي مقدار مسؤولية الصورة التي اذا ما بعثت برسائل خالية من القيم والمعاني الجميلة فتلك جريمة تستحق التحقيق البوليسي وتستحق الإهمال والغاء هكذا نوع من البرامج