الدكتور / مزهر الخفاجي
يتفق معظم علماء الانثروبولوجيا من ان عمر الانسان البدني مايقارب من مليون الىمليوني سنه كما يقول العالم دورثي في مؤلفه الانسان في فجر حياته وكان نشوءالانسان المتحضر والحضارة في العموم حادث متناغم …
ويؤكد فرضية المدنية الاولى في العالم (صموئيل كريمر) ..
ولقد اتفق الباحثون والدارسون لتاريخ الشعوب من ان الحضارة مظاهر من اهمها :
المظهر السياسي ويتمثل في تكوين لنظام الحكم ونوع الحكومة وطبيعة مؤسساتها
والمظهر الثاني هو المظهر الاقتصادي ويتمثل في موارد الثروة ووسائل الانتاج والمظهرالاجتماعي والذي يتمثل في تكوين المجتمع ونظام الاسرة ودور العشيرة والمظهر الاخيرهو المظهر الفكري والديني والثقافي ..
ولان موضوعنا عن العشيرة فاننا نقول كانت العشيرة في كل المجتمعات البدئية الاولىاو المدن او القوميات كما يسميها السومريون هي حجر الاساس لبناء مجتمعاتناالحضارية …
السومريون والساميون مادة المجتمع الرافديني القديم وقبائل (الساميين والحاميين) همالنسيج الذي تكون منه المجتمع الفرعوني المصري القديم وكذلك كانت قبائل (البلاسيجوالاخيون والايونيين) العنصر الذي تشكلت منه المتجمع الاغريقي القديم وعشائر ( الاتروسك) هم مادة المجتمع الروماني القديم وهكذا في حضارات ودول العالم القديم كماهو الحال في المجتمعات العربية الحديثة
فالشخصية الانسانيه كما يقول عالم النفس البورت
هي الانتظام الديناميكي في الفرد للاجهزة النفسيه والفسيولوجية والذي يحدد توافقاتهذا الانسان الاصيل مع بيئته (مع جماعته او عشيرته)…
وصناعه بيئته الشخصية ماهي الا حصيلة معقدة نتاج تفاعل شيئين اساسيين هماالعوامل الوراثية البيولوجية والعوامل الطبيعية والاجتماعية اي ان الشخصية هي عاملتفاعل القيم الموروثة مع البيئة والفطرة المكتسبة والنضج في الحياة بمساعده عامليالخبرة والتعلم وان التربية كمفهوم قيم نقصد بها تلك الرحلة التي ينتقل بها الانسان منالهمجية الى المدينة …
وقد حدد علماء الاجتماع ان اطر العوامل التربوية والتي تساهم في دمج الفرد معالجماعة وحدودها بثلاث انماط فيها التربية النظامية (formal)
والتربية غير النظامية (non formal) والتربية اللانظامية (in-formal)
لانأتي بجديد حين نقول ..
لقد كانت العشيرة افخاذاً وبطوناً قبائل وامارات مادة المجتمع الرافديني وهي التي كانتقد تاسس على ضوئها اولى التجمعات المستقرة في حيز فضائها الرافديني او الفرعونياو الاغريقي او الروماني الاول …
لقد نجحت العشيرة بمنظومتها البدائية (الاخلاقية والسلوكية )…
بعد الاستقرار او الاستيطان وهي تنتج مجتمعها المدني البدئي في مسارها التطوري منالمدن واقصد الانتقال من القرية البدائية الى القرى الاكبر ثم الى المدن ويترافق مع نشوءهذه المدن توسع مدرك الفرد والجماعة ..وحاجتهم الى أطر وفعاليات تحكمهم وتحميهموتنظم شؤون حياتهم …
فاحتاجت مدن العشائر والقبائل هذه …
الى (مدونة اجتماعية) او منظومة اعراف وقواعد اخلاقية (قانون) وحاكم قيم علىشؤونه الروحيه والاجتماعية والى جماعة راعية لهذه العلاقة بين الفرد ..ترضي الفردفيقبل بها وتحدد وترعى شؤونه العامة وتدافع عن حيز وجوده ..
ولابد ان نشير الى ان المجتمع العراقي في تاريخه القديم والحديث والمعاصر قد توارثهذا التجاور غير المقصود مابين (الحضاري والبدوي) السومريين والساميين (العربالشماليين– الجزيرة) (وعرب الجنوبيين –اليمن)…
وقد استمر التجاور مابين (القيسيين الاموين واليمانيين العلوين) ( ذوي الهوى العلوي) واستمر هذا التجاور العشائري القبلي بتشكيل نواة المجتمع العراقي في دولته المعاصرةمابين المجتمع الزراعي الريفي والمجتمع البدوي…
وقد كانت العشائر بدعوى العرف والمصالح او بدعوى غياب الوعي مقدمة الكثير منعناصر التدهور الذي عاشه المجتمع العراقي فقد ساهم العثمانيين ثم الانكليز وحتىالامريكان والاوربيين الى حد ما …
الى استكمال عملية بناء النظام الاقطاعي في العراق المعاصر ودعمه في سيطرته علىالاراضي الزراعية
وقد استغل الانكليز حالة من الخلل التي اوجدها العثمانيون في جسد العشيرة عندماحولو شيوخ العشائر وبعض الوجهاء الى ملاكي اراضي وحولوا وجهاء العشيرةوابناء وعمومتهم من الذين تربطهم صلة النسب الى اجراء اراضي او مزارعين او فلاحينيشتغلون عند شيوخ العشائر …
هذا الامر قد غير شكل العلاقات القائمة في نسيج المجتمع الزراعي العراقي فساد شكلاًمن اشكال الدونية في التعامل من قبل شيوخ العشائر وابناء عمومتهم الاجراء …
فتحول شيوخ العشيرة من ابناء عمومة الى امراء ومن فلاحين الى ملاكي اراضيواقطاعيين يسومون الناس سوء ظلمهم …
لم يترك سفر الاحتلال مسار التطور التاريخي ياخذ طريقه الطبيعي في تغير احوالالعراق السياسية والاجتماعيه
فعمل الانكليز متقصدين الى تغيير منطق الاشياء من خلال احتضان رؤساء العشائرالموالين والمؤيدين لوجودهم والاعتماد عليهم وحدهم في ادارة شؤون الريف العراقي
جنوباً وشمالاً وغرباً على اساس الولاء للمحتل والقبول بمقدراته…
هذا الامر هو الذي جعل الانكليز يحكمون سيطرتهم على العراق عن طريق اقطاعياتعشائرية
ولم يكتفي الانكليز بهذا الامر كما يقول (حنا بطاطا )
ولذلك يبدو ان الانكليز كما هو حال من سبقهم العثمانيين رأو في رؤساء العشائر ضماناً(سياسياً وامنياً
و اقتصادياً)
لاستمرار سيطرتهم ووجودهم في العراق لاطول مدة
ولذلك قاموا بلاعتراف واصدار قانون العشائر لسنه ١٩٤٨ والذي اجاز تعطيل كل قوانينالمدينه في المناطق العشائرية …
لقد ساهم المحتلون في اصدارهم لقانون دعاوى العشائر بوعي مفرط في تكوين فكرةغياب القانون في تقسيم المجتمع العراقي القديم فبعد ان دمروا نسيجه المجتمعيوحولوا العشيرة الى امراء وأجراء وعبيد
وبعد ان قسموا المجتمع الى موالين للاحتلال ورافضون له وسيادة قيم الاقطاعياتالقبلية على حساب تطوير مرافق المجتمع بدل من توسيع وعيه وضمان حقه في العيشالكريم..
هذا التسطيح في الوعي الجمعي والتمييز في الولاء
على اساسً طبقي مقيت ثم احكام النظام العائلي العشائري على مقاليد دولته اضعفهوية الانتماء الفرد لثالوث المدنية المعاصر (والذي نقصد به الوطن ،المجتمع،القانون)..
هذه المحنه التي ظل العراقي يعيش فيها قرابة قرن من الزمن هذا الامر هو الذي جعلالعشيرة وليس الافراد او الزعامات عنصراً مُعطلاً لبناء وعي الفرد وانتمائه لوطنه
ان لم نقل ان محنة الانتماء للعشيرة بكل جورها وتعسفها وتخلفها مارست شكل مناشكال فرض عزلته المدنيه والاجتماعية وحتى الثقافية فعاش الريف العراقي في عام١٩٥٨ مقسماً الى رؤساء عشائر واقطاعي وملاكي اراضي وبيوتات تتحكم باكثر من٩٥٪ من اراضيه وبعد ان حكم المحتل بالسيطرة على اوضاعها الداخلية فتح اليه افاقنهب النفط
نخر الجوع في جسد معظم ابناء العشيرة العراقية التي صار امامها خيارين ترك مهنةالزراعه ومهنة الاجداد والهجرة الى مراكز المدن مثل بغداد البصره الموصل
او البقاء تحت سيطرة رؤساء عشائر قساة وظلمة وادوات حليفة للمحتل وان قبولهميعني البقاء كأجير في ارضه
نعم لقد ظل الفلاح العراقي في الوسط والجنوب تحديداً يعاني ظروف معيشية صعبهللغاية في ظل نظام اقطاعي غير قانوني ولا اخلاقي لهُ.
وقد ترافق هذا الامر مع ضعف سلطة الدولة العراقية الحديثة وغياب سيطرتها على الريفالعراقي …
ان لم نقل ان الزعامات السياسية التي كانت اغلبها
منتجاً (عثمانياً او بريطانياً) قد تواطأت مع زعماء العشائر وكانت داعمة لهم كما ذكرناسابقاً في اصدارها قانون العشائر الذي خول زعماء العشائر وملاكي الاراضي سلطاتهاالثلاث وعطل احكام القوانين العراقية النافذة الضامنة لحقوق وحريات الفلاح العراقيوالامر الانكى من ذلك ان الدولة وحكوماتها وزعماء عشائرها قد مارسوا بقصدية واضحةتجهيل مجتمع الريف العراقي من خلال تغييب حق الفرد في التعليم والسكن اللائقوتوفير مستوى من الخدمات الانسانية التي كان يحتاجها الريف العراقي …
ولكي يكافئ هولاء المحتلون رؤساء العشائر مكنوهم في الفوز او الحصول على مقاعدفي مجلس الاعيان والنواب
هذا الامر ونقصد الظلامات الثلاث …ظلم الاحتلال
وظلم الدولة وتخلفها وظلم العشيرة للفرد وخذلانها له ..
وسع من هجرة الفلاح في الجنوب والوسط والغربية والشمال الى بغداد هذه الهجرة هيالتي جعلت مراكز المدن في عراق الخمسينيات وحتى الالفينات قرى منتفخة….
هذه القرى او المناطق بعد عام ٢٠٢٠ لم تنقطع عن علاقات وجماعات ومرجعيه ومنظمومةواعراف وتقاليد وافكار القرية و العشيرة و الريف …
ولم تستبدلها الا بأسوأ منها منكفئة الى حواضنها القديمة ونقصد العشيرة وذلك حينماتخلت الدولة ومؤسساتها (التشريعية والتنفيذية والقانونية) عن حمايتها …
كما انها من جانب اخر جعلت العشيرة وافرادها يتصارعون فيما بينهم مرة حزبياً واخرىطائفياً وثالثاً طبقياً تحول مجتمع المدينه العشائري الى مجتمع متناشز اجتماعياًواقتصادياً (الفوز والغلبة للقوي) وثقافياً اي ان الغلبة للذي يملك المال والسلاح والجاهوالمحسوبية في ظل هذه الظروف والتي نعتقد ان العشيرة كانت بقصد او بغير قصدضحية ضياع وعي زعمائها ودورهم الاجتماعي والاخلاقي والوطني بسبب غيابمساحة الرأي لدى زعمائها واخرى بسبب النظره الطبقية الضيقة لدى بعض زعمائهاوالذين ارادو الحفاظ على مصالحهم ووجاهتهم وتمتعهم بامتيازاتهم المادية على حسابدورهم الاجتماعي والاخلاقي والانساني…
وكل الخوف الان ان يتحول مرة اخرى زعماء عشائرنا الى حاملي اختام من جديدللمقايضة بمستقبل هذا البلد العظيم وشهود زور لبيع ذمم تاريخ عشائرهم او انيتحولوا الى حفاري قبور لارومات عشائرية نفخرُ بها وقيم مُثلى طالما قاتلت على حدودالوطن …