نعيم عبد مهلهل || كاتب عراقي
تعيش الأساطير والحكايات التي تتحدث عن العفاريت والجِن في داخل رداء الإنسان الأهواري مثلما يعيش الظل مع شمسه، وهم منذ أزمنة سليمان الذي يعرفوه من خلال قصص الروزخون الذي يأتي بها إليهم طوال شهر عاشوراء قادماً من كربلاء وحاملاً على أكتافه حزن (مقاتل الطالبيين) التي دوّنها أبو فرج الأصفهاني في كتاب، وليجمع من أجفانهم أواني كبيرة من الدمع ويعود إلى مدينته محملٌ بمؤونة عام من الزبدة والدهن الحر ورز الشتال وعدد من الديكة والدجاج وقليل مما يجمعه له أهل القرية من نقود، فهم في عشقهم وحزنهم من أجل الحسين (ع) يحبون المقايضة بالقمح والديكة لإيمانهم أن نذور الحسين ومحبته تتحقق من خلال الطعام.
دائماً هنا يتذكرون سليمان ويسمون أسماءهم باسمه ولا يتذكرون بلقيس ولم أسمع أنَّ امرأة من نسائهم تدعى بلقيس. ويتحدثون عن العفاريت والجان ولا يتحدثون عن الهدهد الذي كان ساعي البريد الأول منذ أول الخليقة لرسائل العشق بين النبي وحبيبته.
كانت حكايات الجن تسكن خيالهم، وربما هي من بعض فزّاعات التحذير أن لا يذهبوا أبعد ما تأمن إليه دوابهم، ويتحدثون عن الجان بأسماء مختلفة مثل (السعلوة وعبد الشط والعربيد والطنطل والبُعبع وخضرة أم الليف وعبد البير) وأسماء توارثوها من آبائهم وأجدادهم، ولم يتجرأ أي واحد منهم أن يضيف اسماً جديداً إلى هذه الأسماء من خلال تخيله جينياً آخرَ ظهر له في النوم أو في ظلمة القصب، ولم يكن شكله كما سمعه في الحكايات، وقد تجرأ شغاتي وفعلها، عن قصد وفكاهة وبدافع لم يقبل أن يشرحه لنا، حين ادّعى مرة أمام أهل القرية بأنه شاهد جنياً من جيش سليمان يتجول في عتمة القصب قبل غروب الشمس، ويقول شغاتي إنه حين شاهدهُ ارتعب من الخوف، لكن الجنيَّ كان طيباً وابتسم لشغاتي، وقال له: إنه من جان سليمان وأتى يبحث عن أنثاه التي سرقها من مخدعها جانٌّ آخر من الجان يسكن قرب قريتكم.
فقال له شغاتي: سأعينك أنا في البحث عنه.
فرد الجنيُّ: لا يبحث عن الجنيِّ سوى الجنيِّ، أنتم البشر لا تستطيعون لمسه وإمساكه، تتخيلونه فقط، وتصادفونه فترونه إن أراد هو أن تروه، ولهذا لن تجده.
وحين سأله شغاتي عن اسمه؟
قال: إن اسمه ميتافيزيقاه..!
كدت أموت من الضحك وأنا أسمع بهذا الجنيِّ الذي ارتبط اسمه بمصطلح (الما وراء الطبيعة) والذي عرفناه من خلال كتب ماركس وإنجلز وغيره من مفكري اليسار.
وقلت لشغاتي: من أين جئت إلينا بهذا الجنيِّ؟
قال بشيء من الغضب: لا تظن أني جلبته من كراس المختارات للينين، لقد وجدته وصادفته وتحدثت إليه.
عدت لأضحك وأتذكّر أن شغاتي قبل يومين استعار مني المختارات ليقرأها…
شاع خبر الجنيِّ الجديد (ميتافيزيقاه) بين القرى، وغامر البعض للذهاب إلى الأمكنة التي وجده فيه شغاتي لعلهم يجدوه، لكنهم لم يصادفوه أو يروا (ميتافيزيقاه) حتى لو مرة واحدة.
وعندما يسألون شغاتي أين يجدون هذا الجنيِّ؟
ينظر إليّ ولسان حاله يقول: تجدونه في الكرّاس الذي أهداه إليّ معلم الجغرافية….!