تسلح بالإرادة وتحدى الالم

تسلح بالإرادة وتحدى الالم

كتب : علاء الخطيب

صناعة الحياة مهمة شاقة لكنها ليست مستحيلة ، فالحياة لعبة يلعبها الجميع يتقنها البعض ، ولا يمكن ان تتقن هذه الصناعة الا بالإيمان والتصالح مع الذات ، والتسلح بالإرادة ، فليس هناك مستحيل ما دام هناك إصرار وعزيمة وطموح ، فسينثني لك المستحيل وتحقق ما تريد، البعض يعزو الأحداث الاستثنائية التي تقع للانسان الى القدر والحظ والبعض الاخر ينسبها الى الطاقة الروحية . يقول الحكيم بوذا: ان الانسان له قدرة عجيبة على تحويل الشهوات الى طاقة روحية فعالة ويمكن ان يستبدل الألم بالفرح والشبق بالمتعة.


هذا ما حدث لطفلة مكسيكية تدعى فريدا والتي أصبحت فيما بعد الفنانة التشكيلية الشهيرة فريدا كاهلو.
الطفلة فريدة ولدت في العاصمة المكسيكية “مكسيكو ستي” ومن بين ملايين الأطفال في تلك المدينة المزدحمة تصاب بشلل الأطفال وتنجو منه ، لتدخل المدرسة وتتفوق في دراستها وتدخل كلية الطب ، لكن حدثا ما غير مجرى حياتها ، حينما دخلت ذات مره الى قاعة الرسم في مدرسة سيمون بوليفار لتلتقي بالرسام المكسيكي الشهير دييغو ريفيرا وهو يرسم جدارية للمدرسة ، كان الطلاب يمنعون من دخول قاعة الرسم اثناء عمل الاستاذ ، لكن فريدا كانت تختبئ خلف القاعة وتراقبه لساعات.
شيئا فشيئا، أصبحت مفتونة بالرجل الضخم الذي كان يلقب بـ بانزون، أي السمين. وفي احد الأيّام صدمت صديقة لها عندما أخبرتها بأنها تريد أن تتزوج به .
ومع ذلك، فإن هذه التهويمات الصبيانية لم تبعدها عن دراستها. ففي عيد ميلادها الثامن عشر كانت قد أكملت ثلاث سنوات من تخصّصها في الطبّ وكان الفنّ ما يزال مجرّد هواية لإزجاء وقت الفراغ.

في يوم عادي ، كانت فريدا تركب السيّارة مع صديقها. وفي صخب وازحام شوارع مكسيكو ستي ،
يقع تصادم بين السيّارة وإحدى الحافلات أدّى إلى انغراس قضيب معدني في بطنها وكسر الفقرتين القطنيّتين الثالثة والرابعة من عمودها الفقري، كما أصيبت بكسور أخرى في عظام الحوض والكتف والقدمين، ولم يوفّر الحادث حتى القدم اليمنى الضعيفة التي سبق وأن عانت من المرض ، فكانت تقول: ” ما حاجتي لقدماي ، إن كنت أملك أجنحة كي أطير” .
فبعد أن أعيد ربط أشلاء الجسد الممزّق، وقفت المرأة لوحدها في الظلام، نظرت في المرآة لثوان، بينما كانت تخيّم على عقلها الهواجس الثقيلة. غير أنها قرّرت أن تتسلّح بإرادة الحياة وأن تتحدّى جميع مظاهر الألم التي لا يمكن تخيّلها.
في ذلك اليوم، ولدت الفنانة فريدا كاهلو بكلّ ذلك المزيج المتفجّر من الألم والحصار والنظرة المتشائمة إلى العالم. ولدت قويّة، شجاعة ومتحرّرة عن كلّ ما يقيّد النساء ويكسر إرادتهن.
بعد الحادث بوقت قصير، بدأت فريدا ترسم بسبب شعورها بالملل لبقائها في السرير فترات طويلة.
سكبت فريدا كلّ انفعالاتها في الرسم. كانت تهتمّ في لوحاتها بتصوير نفسها ومعاناتها الشخصية وتوقها العاطفي وارتباطها الحميمي بعالم الطبيعة.

و تمحورت رسوماتها حول تجربتها الشخصية ، وبدا أن تلك الرسومات كانت محاولة لإعادة بناء واقع يصعب نسيانه: الاصطدام الرهيب بين السيّارة والحافلة، الأجساد الملقاة على الأرض، جسدهالمغطّى كلّه بالجبس.

أصبحت فريدا هي نفسها، الملهمة للوحاتها الأولى. لم تكن تعتبر لوحاتها فنّا، بل نوعا من السيرة الذاتية التي كانت تضعها على ورقة الرسم: الملامح الجامدة، الحواجب الثقيلة، النظرات الحائرة. كانت تحاول دائما أن تُظهِر ما يختفي وراء الملامح الصارمة، أي معاناتها ووحدتها وألمها. كان واقعها قاسيا. تلقّت ثلاثين عملية جراحية على مدى السنوات التي تلت الحادثة في محاولة لإعادة بنية العظام المكسورة والملتوية. وكلّ عملية كانت تجلب معها عودة إلى العذاب والمعاناة. قيل لها أنها لن تستطيع المشي ثانية. لكن بنفس القدر من التصميم الذي اعتادت به أن تتجاوز مصائبها، تمكّنت فريدا من المشي مرّة أخرى.
بعد أن بُعثت إلى الحياة من جديد، أصبحت فريدا كاهلو جزءا من الحراك الفنّي والثقافي لمدينة مكسيكوسيتي. هنا، تدخّل القدر مرّة أخرى عندما يسّر لها لقاء دييغو ريفيرا الذي سبق وأن رأته في طفولتها ، لتتزوجته وهي في سن الثانية والعشرين وهو في الثانية والأربعين ، فقد حققت شهرة كبيرة وأصبحت فنانة عالمية مشهورة .
قصة فريدة كاهلو هي مثال ونموذج للإرادة الانسانية التي يمكن ان نستنسخها في بلدنا العراق بعد ان دب اليأس في نفوس الكثير، واعتقدوا ان الحياة في الوطن لا يمكن ان تستعيد عافيتها في ظل الألم الذي يعانيه الانسان العراقي، الا انهم نسوا ان الإنسان الحر لا يعرف المستحيل.

(Visited 11 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *