صائب غازي
كلما أردت أن اكتب مقالا عن المخرج والمنتج العراقي الكبير فيصل الياسري أجدني أذهب الى تأجيله لأنني لا أريد أن امدحه رغم ان الفنان فيصل الياسري حاضرا بشكل دائم في ذاكرتي وذاكرة معظم الفنانين الذين عاصروه وله تأثير مباشر على جيل كامل من المخرجين بشكل عام وعليَّ أنا بشكل خاص على المستويين المهني والشخصي ومع هذا لم ارغب في أن أسطر إيجابياته التي إعتاد أن يتداولها الجميع فلذلك قررت أن لا امدحه اليوم فلم انسى أول لقاء جمعنا في مبنى معهد التدريب الإذاعي والتلفزيوني التابع لتلفزيون العراق حين كان يرأس لجنة مقابلات واختيار المراسلين التلفزيونين وكنت أنا طالبا في كلية الفنون الجميلة واتوق لدخول التلفزيون بأية طريقة لكن فيصل الياسري حرمني من الحصول على تلك الفرصة ورفضني قائلا لي “أنت تدرس فنون سمعية وبصرية عندما تتخرج تقدم للعمل في مجال الإخراج والتصوير والمونتاج وليس مراسلا” قلت له من يمنحنا هكذا فرصة قال “ابدأ من الصفر حتى لو تعمل في مهنة متواضعة كأن تحمل الأشرطة وتساعد في الإنتاج وفي تلبية احتياجات المخرج لأنك سوف تكون بموقع العمل وداخل الأستوديو وذلك يعطيك المجال للتعلم بانتظار الفرصة” فلماذا امدحه وقد خرجت من عنده حينها منزعجا غاضبا على فرصتي التي ضيعها الياسري بنصيحته تلك ولكن مهلا فبعد سنوات قليلة جدا دخلت تلفزيون العراق وبدأت عملي مساعد مخرج ثم مخرجا وأصبحت أعرف بوصلتي بفضل فيصل الياسري الذي حدد لي توجهي وهدفي المستقبلي فغدوت امدحه ، ورغبت في أن أرد له الجميل على تلك النصيحة التي اعتمدتها منهجا في عملي والتركيز على تخصصي فكان لي فرصة اللقاء به للمرة الثانية عندما استضفته في برنامجي الأسبوعي (موعد مع السينما العراقية) والذي أخذ مساحة واسعة من الانتشار في التسعينات من القرن الماضي عندما دعوته للحديث عن فيلمه (الرأس) وكان الياسري قد غادر منصبه حينها وترك تلفزيون العراق وما ان وطأت قدمه الأستوديو حتى أخذ يتدخل في توزيع الإضاءة و زاوية الكاميرا والديكور فكانت له لمسات جميلة بمثابة درس حتى للفني مصمم الإضاءة كما أن زمن المقابلة من المفترض أن لاتزيد عن 15 دقيقة ولكنني سجلت معه حوالي 50 دقيقة حيث أبهرتني كمية المعلومات الغنية التي يلقيها علينا وكأنها محاضرة ممتعة هذا الى جانب إعجابي بطريقته الخاصة في النطق التي يتميز بها ويعرفها جميع العاملين بالوسط الفني ولأنني كنت ولا أزال أعتمد الكاميرا المتحركة والإيقاع المتحرك كثيرا في عملي وأعرف أنني في المونتاج لن أخذ أكثر من 15 دقيقة من مقابلته بضمنها المقاطع الفلمية فكنت أقوم بالمونتاج في ذهني اثناء التسجيل وأحدد الأجزاء التي سوف أستخدمها والأجزاء التي سوف أستبعدها لذلك كنت أسمح للكاميرات بالحركة حد العبث أثناء المقابلة وبعد الانتهاء من التسجيل أبدى فيصل الياسري امتعاضه فهو كان يشاهد ما أفعل على شاشة المونتر الموضوع أمامه وصرخ قائلا “عندما يتحدث الضيف يجب أن تثبت الكاميرا على وجهه ، لا أن تعبث بالكاميرات” وخرج من الأستوديو غاضبا فقلت مع نفسي لن امتدحه وهو يتدخل بتفاصيل عملي ولكن تدخله هذا كان نابعا من يقين عميق بالخبرة والعلم والمعرفة الإبداعية التي يمتلكها فكان درسا مضافا أتعلم منه وبعد عرض البرنامج بصورته النهائية أعجبه وأثنى عليه ، كلما أذكر فيصل الذي لا يغادر ذاكرتي تدور في خلدي تمثلات كثيرة بعضها يحفزني أن لا امتدحه فهو من قدم وأشرف على برنامج (الملف) هذا البرنامج الداعم للسلطة حينها ولكن مع التفكر بحيادية بعيدا عن الأحكام المسبقة نجد أن هذا البرنامج لم يكن تقليديا مطبلا للنظام بقدر ماهو كان على قدر عال من الأهمية في أن يكون حلقة وصل بين الوقائع والأحداث وبين الجمهور الذي يتوق الى معرفة مالذي حدث ولماذا تعرض العراق الى الهزيمة بعد تحرير الكويت فكان النجاح والتأثير الكبير للبرنامج هو بمثابة المدح التلقائي لفيصل الياسري وفي الوقت نفسه كان درسا جديدا في طريقة إخراج وتقديم البرامج ، من التمثلات الأخرى أيضا التي تقف حاجزا بيني وبين مدحه فكرة أنه قد أفنى عمره ينتج ويخرج الأفلام السينمائية والتلفزيونية خارج العراق في لبنان وسوريا ومصر ودول الخليج وألمانيا فلماذا لا ينتج داخل العراق ويثري بلده بمخزونه الفني الثر الذي نحتاجه جميعا فاذا بي وبمراجعة لسياق ومنهج ما يعرض وينتج ويبدع لم أره إلا سفيرا للعراق من خلال تلك الأعمال و واجهة مشرقة في كل المحافل الفنية العالمية كيف لا وهو ينتج ويخرج المسلسل التعليمي الكبير (أفتح يا سمسم) الذي تربت عليه أجيال من أبناء الوطن العربي كيف لا وهو يقدم المعرفة والتراث واللغة والفن والإبداع في قناة بغداد الثقافية التي أسسها وأدارها كيف لا وكل لقطة يصنعها وكل كلمة يكتبها وكل حركة يمثلها تعد بمثابة ورشة عمل فنية حقيقية وتشهد له بذلك أهم أعماله (القناص ، النهر ، الرأس ، الملك غازي (ممثلا) ، حمام الهنا ، دنانير من ذهب) وغيرها الكثير من الأعمال الخالدة ، كيف لا امتدحه ويدين له بفضل العمل والتتلمذ على يديه وتحت خيمته الفنية بكل صنوفها منتجا ومخرجا ومدرسا ومديرا لتلفزيون ومالكا لقناة تلفزيونية وشركة إنتاج (الديار) التي احتضنت معظم العاملين بالوسط الفني وشرعت لهم الأبواب حين ضاق بهم الأفق وحاصرتهم الفاقة أثناء الحصار الاقتصادي الخانق على العراق فوسعهم فيصل الياسري بقلبه وعطاءه ومؤسسته و أنا من بينهم حين أحاط بي الخذلان من كل ما جانب وأغلقت بوجهي كل الأبواب وضاقت الأرض برحبها حينها أمتدت يد فيصل الياسري مساهما بشكل كبير في تثبيت أقدامي على الأرض حتى أبقى أرسم الخطى في طريق الفن والإعلام ، كنت أتمنى لو أستفاد من تجربته وخبرته الكبيرة من الذين يتحكمون بالاعلام والفن في هذه المرحلة لكان قد أغنى التجربة الجديدة للعراق بالكثير ولكن للأسف التقييمات لدينا دائما تفتقر الى الموضوعية وتبنى على أساس المصالح الفئوية الضيقة ولا تلتفت الى التجارب الثرية الغنية ، لهذا كله وأكثر قررت أن لا امتدح فيصل الياسري الذي صنع جيل كامل من المخرجين والفنانين ولكني وجدتني امتدحه من حيث أدري ومن حيث لا أدري.