هل تحولت الهوية الوطنية إلى مزحة؟

هل تحولت الهوية الوطنية إلى مزحة؟

شاكر الانباري – كاتب عراقي

في العراق لم نعش استقراراً، حتى لو كان نسبياً، منذ عقود، وهو ما نلمس نتائجه اليوم في البيئة الحاضرة. وقد شاهد الجميع تآكل الهوية الوطنية بسبب اللا استقرار ذاك، وعادة ما تعمل الحروب والتشنجات المفاجئة في المجتمع على تقطيع الروابط العامة بين الأفراد أولاً، وبين المؤسسات ثانياً. سنوات الحروب، على سبيل المثال، حولت البلد الى ثكنة عسكرية حقيقية، بمعنى انهيار أغلب المؤسسات المدنية أو تحولها إلى تابع للمؤسسة العسكرية، والكل ظل تحت سطوة قوانين طوارئ غير مرئية. كل شيء من أجل المعركة كان هو الشعار الذي هيمن علينا طوال تلك العقود. وبما أن القضاء جزء من بنية الحياة المدنية في أي مجتمع، يترتب على عدله ونشاطه واستقلاليته انضباط أغلب نشاطات الانسان، وهو ما لم يكن موجوداً بصفته تلك خلال سنوات الحروب، والقمع، والهجرات، والالغاء، والتهميش، لذلك ارتدت مناحي الحياة إلى عناصرها الأولى، أي الانتساب العشائري والطائفي والمناطقي، مما كان له الدور الفاعل في خلخلة الهوية الوطنية.
وبأعصاب مشدودة دائما كنا نتابع وضعنا السياسي الذي هيمن على كل موضوع عداه. لم لا، فالسياسة هي التي توظفنا، وهي التي تدير مدارسنا ومستشفياتنا، وتديم الأمن في طرقاتنا ومؤسساتنا، لهذا تحولنا الى خلية صغيرة تتحسس ما يدور في أروقة السياسة، الحكومة ومجلس النواب والقضاء والصحافة، فأي اهتزاز يحدث هناك يمكنه أن يعصف بليالينا، وأيامنا، إن عاجلا أو آجلا. إنساننا القلق يقف على توازنات غير مرئية من الخطورة العبث بها. والاهتزازات السياسية قادرة لدينا على تقويض مؤسساتنا، وأحلامنا، وبرامجنا الشخصية، ومستقبل أطفالنا. هذا ما هو عليه الفرد الباحث عن استقرار طويل، عبره يمكن صرف النظر عن متابعة العواجل، والمتغيرات اليومية في السياسة، والأمن، كي يلتفت الى حياته الخاصة. ففي الأحوال العادية، ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، يصنف العراقيون على أنهم من أكثر الشعوب اهتماما بالسياسة، حتى فلاحهم يتكلم بالسياسة وكأنه نعوم تشومسكي، وهي خصلة تدل في جانب منها على الذكاء، وتوقّد الفطنة، لكنها في جانب آخر تدل على انصراف الناس لدينا الى كل ما هو كلامي، غير عملي، ويعكس انشغالهم بشؤون لا تخصهم، وسمة على البطالة في الحياة.
الشعوب التي تتكلم كثيرا عادة لا تنتج سوى النزر القليل من كل شيء، وهذا ما يراه المرء لدى الشعوب المتطورة اجتماعيا وصناعيا ومؤسساتيا، فهي شعوب لا تتكلم كثيرا في السياسة وتفاصيلها، كون حياتها السياسية مستقرة، وواضحة، بينما غادر اهتماماتنا آخر كتاب قرأناه، وآخر مسرحية شاهدناها، وآخر فيلم نال اعجابنا، وآخر بلد زرناه. وتلك المتع الفكرية، والفنية، والمعرفية، يفترض أنها هي التي توحدنا كنخب متعلمة وأكاديمية متنورة، الا أن تلك النخب عادة ما تتجه الى ما يشدها إلى الوراء، إلى الانحياز السياسي والمذهبي والاثني، وهذا أخطر ما نواجه. أي انشقاق الروح المعرفية على أسس دينية وقومية، وهذا عادة ما لا يحدث الا في الخارطة السياسية المتلاطمة لدينا. ففي تجارب الشعوب المستقرة، الغربية خصوصاً، والصناعية عموما، ثمة تعويل كامل على شد البلد، بعضه الى بعض، بسوق وطنية واحدة، وبقوانين مدنية، واستقلالية السلطات، وحرية رأي، وحرص على حقوق الانسان الأساسية، وتوحيد مناهج التعليم، وما الى ذلك من مقومات تديم، وتحافظ، على هوية ملموسة. ولكن كل ذلك لم يكن ليتم من دون استقرار نسبي طويل، استطاعت الشعوب عبره، وعبر معالجة الأخطاء والنواقص في المؤسسات والقوانين، من النهوض بمجتمعاتها للوصول إلى حالة متطورة من الرقي. استقرار المؤسسات هو الذي دعم الاستقرار السياسي. كان لنمو الارهاب لاحقا، وما رافقه من انفلات مسلح، وتصاعده في أكثر من محافظة، دور في تفتيت اللحمة المكانية، وقطع الروابط بينها، سواء كانت تلك الروابط اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. بينما نشأ عن تصادم المكونات، خلال عملية التبلور والصراع على السلطة والثروة، شرخ عميق ما زال قائما في بنية الهوية الوطنية.
البيئة التي نعيش فيها هي بيئة عنف بامتياز، أما الفوضى في القوانين والتشريعات، ولنقل غياب القوانين في الفترة القريبة، فقد أرجع الفرد، والجمهور، في كل بقعة من بقاع الوطن، إلى المكونات العتيقة للجنس البشري. قرابة الدم والعشيرة وما يلحقهما من انتماءات ذات صفات قطيعية. القمع المجتمعي، وامتداداته، أسقط مفهوم الوطن في دائرة مفهوم المكونات، لعدم قدرة المرحلة السابقة من نحت هوية المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. ووجود مؤسسات مثل السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، منتخبة، ومقبولة جماهيريا، هو ضمانة للاستقرار أولا، وضمانة ثانيا لخلق بيئة فكرية، سياسية، تبلور مشتركات عامة يسير عليها البلد، وهذا بالتالي، يرسخ مفهوم المواطنة ويشرعنه. والاستقرار، لا يشمل الأمن فقط، بل يمتد الى شبكة من الحوامل داخل الدولة والمجتمع وعلى رأس القائمة هو الاستقرار الاقتصادي، حين يستطيع أبناء البلد، في المحافظات كافة، إيجاد فرص عمل متكافئة، والخضوع لقوانين عمل، وضمان، ومساعدات اجتماعية، تكفل عيشا كريما للأسرة. والاستقرار الوظيفي ملحق مهم من ملحقات الاستقرار الاقتصادي. وهناك الاستقرار الأمني وثماره المتمثلة بالنشاطات الاجتماعية المؤثرة، والعلاقات المتحضرة السلسة، وحب الحياة، والبحث عن مستقبل أكثر تفاؤلا. الاستقرار مثل شبكة خفية تسري في زوايا الحياة، وتمتد في مناهج التعليم، والسياحة، والانفتاح على الآخر، والتأسيس لزراعة متطورة ومتنوعة، وصناعة تغطي احتياجات الأفراد قدر الإمكان. فوق كل ذلك تخطيط محكم لإدارة الموارد البشرية وتوزيع الثروات ورسم خطط مستقبلية للمجتمع.
إن تخلخل الهوية الوطنية، كما هو حاصل اليوم، يمكن ملاحظته بأجلى ما يكون. في المجتمعات غير المستقرة لا يمكن التخطيط بشكل صحيح، ودقيق، للزراعة والصناعة والتعليم والصحة والسياحة، وحتى للثقافة بمعناها الشامل، إذ أن الظروف القلقة هي التي تتحكم بما سينجز على الأرض. وكان لدورة العنف أثرها البالغ في نسف أي تخطيط، لأي شيء. وما نلاحظه من فوضى سياسية حاضرة، لا يمكن فصلها عن تشظي القاعدة المتينة للنخبة السياسية، أي الاستقرار المجتمعي، الاستقرار غير الناجز، كون صراع المكونات ما زال مستعرا. والاستقرار لن يحصل في السنوات المقبلة، إلا بعد اكتمال عملية الدمج، والفرز، والغربلة، للوصول إلى هوية واضحة تكون حتما هي الهوية الجديدة لعراق ما بعد الفوضى.

(Visited 64 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *