“اعادة تدوين القصيدة”
محمد السيد محسن
عرف بين الشعراء , اذا حضر شيطان الشعر فان النزف الشعري ينتهي بالقاء الشاعر لقصيدته , فلا يعدل بها , لانه لا يجرؤ على اعادة النزف الشعري الذي اولد له القصيدة .
شعراء كثيرون قالوا عن قصائدهم السابقة : لو انهم كتبوها في زمان غير ذاك الزمان لكانت رؤيتهم الشعرية غير التي دونوا فيها القصيدة القديمة , بيد انهم حافظوا على جسد القصيدة المقصدي , والبنية اللغوية لها .
وعسف عن هذا الطريق مظفر النواب الذي تجرأ على اعادة تدوين القصيدة , حيث نراه في اكثر من قصيدة , يعيد صياغة بعض المساقط الشعرية باضافة جمل يبتدعها الوقت الجديد لإلقاء تلك القصيدة , او اعادة قراءة القصيدة دون غيرها .
انها جرأة بلا شك حيث ان مظفر يعتقد ان قصيدته تحمل الفكر , والفكر قد يتطور مع السنين , فلا يجوز للمفكر ان يبقى على وجهة نظر , كان يؤمن بها في فترة من فترات حياته , وان يتشبث بها , وكلنا نعرف ان المد اليساري الذي اثر في الشباب العربي قبل منتصف القرن الماضي , لم يبق بعد سنين , حيث استطاع بعض الشيوعيين ان يغيروا من منهج تفكيرهم بما يخص بعض المعتقدات والافكار التي ربما كانت تمثل خطا متشددا , او متحررا لا يساير رؤية المجتمع مع تغير تلك المجتمعات , واقترابها او انحيازها الى الماورائيات حسب معاناة الشعوب وتغير الظروف التي تحيط بهم.
استطاع مظفر ان يتحلى بالشجاعة في اعادة صياغة بعض قصائده , خصوصا فيما يتعلق ببعض الصور الشعرية , او بعض الافكار التي تضمنتها بعض قصائده.
اطرح مثالا حول هذه القضية في قصيدة “في الحانة القديمة ” والتي اشتهرت بعد منتصف الثمانينات والقاها اول مرة في الجزائر التي زارها مرة واحدة فقط , بدعوة من اتحاد ادبائها , حيث القى في هذه الامسية مجموعة قصائد مثل “ثلاث امنيات على بوابة السنة الجديدة” , وقصيدة “في الحانة القديمة” , وقصيدة “الاساطيل” وهي القصيدة التي تنبأ بها بمجزرة الحج لذلك لعام , وهذا موضوع مؤجل لحلقة قادمة , حيث ان مظفر النواب من الذين تنبأوا بعض ما جرى في البلدان العربية من احداث من خلال قصائده.
في قصيدة “في الحانة القديمة” يروي مظفر قصة رجل يلتقي بغيا في حانة , ثم يتحدث عن شرف البغي ويقارنه مع ما يسمى بشرف بعض القيادات التي اودت ببلدانها الى الهاوية , ويقول في اول القاء للقصيدة :
المَشرَبُ لَيسَ بَعِيداً
ماجَدوى ذلِكْ؟
أنتَ كما الإسفنجَةَ تمتصُ الحانات ولاتَسكَر
يُحزِنَكَ المتبقٌي مِنْ عُمرِ الليل بكاساتِ
الثَملين
لماذا تَركوها؟
هل كانوا عشاقاً؟
هل كانوا لوطيين بمحض إرادتهم كلقاءات القمة؟
هل كانت بغي ليسَ لها أحَدُ
في هذي الدنيا الرثة؟
لو كنت هنا
خبأت بسترتك التاريخيٌة رغبتها
وهمست بدفء في رئتيها الباردتين..
أيقتلك البرد؟
أنا يقتلني نصف الدفء.. ونصف الموقف أكثر
—–
وبعد اكثر من سبع سنوات بدأ مظفر يعدل في بعض المساقط الشعرية لذات القصيدة مع الحفاظ على ثيمة القصيدة ومقصدها , وبعد التعديل اصبح القصيدة في بعض اجزائها المتغيرة بالشكل التالي:
المشرب ليس بعيدا
ما جدوى ذلك
انت كما الاسفنجة تمتص الحانات ولا تسكر
يأخذك الحزن لكاسات تركت طافحة للصمت
هل كانوا عشاقا
غلب النوم عليهم
غرباء تعبوا من هذي الدنيا والموت تأخر
ام بضعة منحطين اجتمعوا
كلقاءات القمة واختصروا المحضر
وتداعب كرسيا اكلته العثة
تلمس برد امرأة تركته
لتبحث عن دفء
لو كنت هناك لأدفأت يديها الباردتين
وتشعل كالشعراء المغمورين سيجارتها
سيدتي
ايقتلك البرد
انا يقتلني نصف الدفء ونصف الموقف اكثر
—-
في التعديل القادم لقصيدة سابقة يرسم مظفر سيناريو اكثر شاعرية , واعمق تصويرا لمكامن هذا المشرب , ويحاول ان يوضح بعض ما كان لم يكن واضحا , او لنقل : مختصرا , فيسهب في وصفه كي يحس باكتمال الصورة والمشهد المشرحي الذي يوظفه على شكل قصيدة.
انا اعتقد ان اهتمام النواب بإلقاء قصائده هو الذي اعطاه فكرة ان يتحول احيانا الى حكواتي يحاول ان يحيط بالمشهد من كل جوانبه , فلو كانت القصيدة مكتوبة فقط , دون اعادة القائها مرات عديدة لبقيت كما كتبها اول مرة , بيد ان النواب الشاعر والمحاكي لوقائع هو يقصد اسقاطها على الواقع المعاش والمرير وفق احساسه هو الذي يدفعه الى اغناء المشهد بعد حين.
لقد جربت الكتابة مع مظفر النواب حين التقيته وبدأت ادون له نصا مسرحيا بعنوان “العربانة” وكان ذلك في صيف 1994 حين قدمت الى الشام حديثا , وكان النص يتمدد بيديه تارة واخرى يقتضب منه القليل كأنه عجينة خبز لم تشو بعد.
وعرفت حينها ان شاعرية مظفر الكبيرة لا يحدها نص ثابت , وان النص الشعري لديه يتحول مرارا حسبما ينهال عليه من تجديد يستند الى خياله الشعري الواسع.
وفي قصيدة وتريات ليلية كان هناك الكثير مما ذكرناه على سبيل المثال في اعادة تدوين القصيدة , وفي بعض القصائد الشعبية ايضا اعاد مظفر تدوين القصيدة لأكثر من مرة , حتى انك تكاد تستمع الى قصيدة جديدة , لكنها في الحقيقة نص مطور من قصيدة سابقة.