أوس حسن – كاتب عراقي
قد يتبادر سؤال إلى أذهاننا هل الثقافة حقاً قادرة على بناء إنسان متكامل، متحرر من كل العقد والموروثات والأصنام الفكرية. هل حقاً الثقافة قادرة على تهذيب النفس الإنسانية،وتشذيبها من عوالق العنف والأوهام المرضية ؟.
هذا السؤال سيقودنا إلى سلوكيات المثقف اليومية وإلى بعض الأنماط المتوارثة التي دأبت عليها بعض المؤسسات الثقافية في صناعة المثقف،وإلى مصادر المعرفة التي انكب عليها طيلة حياته؛لنرى دور ونوع هذا الوعي الذي تبلور نتيجة هذه التراكمات الحسية والمعرفية والبصرية.
قد لا يدرك كثير منًّا أن الوعي والثقافة قد يصبحان شبه منفصليين تقريباً،وفي بعض الأحيان يحصل بينهما تنافر شديد،أو تباعد محمود ربما.
فالكثير من القوى العظمى ومن طغاة العالم اعتمدوا على نظريات ثقافية ومرجعيات معرفية في حروبهم على الدول المستضعفة وفي استعباد الإنسان، والغاء حقه الوجودي في الحياة،فما من دكتاتور إلا وصنعه مثقفون وطبلوا له وأغرقوه بلذة الأوهام،وما من حركات عنصرية في العالم إلا واستندت على ثقافية أصولية متشددة. وما من دماء سالت إلا بسبب نص باركته المخيلة الإجرامية للمثقفين . فكانت ولادة الأفكار النازية والفاشية قبل الحرب العالمية الثانية في أوروبا سببها ذلك الهوس الهستيري بالسلطة الذي أصاب الكثير من الفلاسفة والمفكرين والشعراء .
عن أي ثقافة نتحدث؟؟،إذا كانت الكثير من مرجعيات الثقافة السائدة تستبيح الإنسان،وتلغي وجوده فكريا وجسديا على هذه الأرض،فالمثقف صانع الحروب والمستلذ بشرب الدماء تزداد خطورته يوما بعد يوم أكثر من السياسي ورجل الدين،وهو في الأصل إنسان ناقص وغير فعال في المجتمع،أراد أن ينتقم من حياة خذلته ومن لعنة وجوده على هذا الكوكب عن طريق فذلكاته اللغويةوألاعيبه النارية،فتراه ممسوسا بوهم السلطة وتغيير العالم.اذا كان المثقف نفسه مليئا ً بالأمراض وعقد النقص وغير قادر على تجاوز معضلته النفسية والسلوكية؛فكيف له أن يكون مؤثرا أو قدوة يحتذى بها؟ على العكس هو يجد لذة سحرية في إطلاق العنان لمخيلته العدوانية وأفكاره السايكوباثية الخطرة،الناجمة عن عقدة قهرية مطمورة في أعماق وعيه،وفي نفس الوقت يقع ضحية لمجموعة من التناقضات الوجودية:..كادعائه الظاهر للمثالية والأخلاق والوعظ،ونشوته الداخلية وهو يمضي في أعماق نفسه داخل دهاليز الشر والخطيئة فتبقى هذه القوى تصطرع في أعماق المثقف وتقف على طرفي نقيض من حبله الوجودي وتكون الغرائز والرغبات الداخلية هي المحرك الأساس لتصرفاته وسلوكه.
ثقافتنا التي تفوح منها رائحة الدماء وأشلاء الجثث،لم تفكر يوما أن تقتل القيم الشريرة داخل الإنسان،دون أن يموت الإنسان نفسه، بل تستمد أصولها ونظرياتها من هذه القيم وتلبسها قناع الخير والفضيلة،وهذه الثقافة لن تتعافى على المدى القريب،إلا أذا طهرنا أنفسنا من وهم المثالية،وجنون تغيير العالم،وسحقنا على حقائقنا المقدسة،تلك الحقائق التي تسري في شرايينها كل أنواع الرذائل والشرور.
صانع الوعي الجمالي المعرفي ليس بالضرورة أن يكون مثقفا أو فيلسوفا،والإنسان الذي يرتقي بنفسه لمصاف الكمال ليس مثقفا بالضرورة.كل هذه الأشياء تنبع من وعي ذاتي غير مؤطربالأحكام العقلية والتصنيفات الذهنية الضيقة،هذا الوعي الذي يبدأ بالاستنارة الروحية الداخليةوتسبقه العديد من التجارب الممزوجة باللوعة والإنكسارات والهزائم؛لتنتهي بتأمل عميق لجوهر الأشياء وغموضها وتوحد تام مع السكينة بعيدا عن المؤثرات الخارجية والوعي الجمعي والشأن العام.فكل حركة في الوجود يجب أن تكون مسبباً حقيقياً لخلق تساؤلات عميقة في نفسك وتفجير طاقاتك الروحية .هذه السعادة الغامضة التي تتسلل رويدا..رويدا إلى صمتك مثل الموسيقى؛سيكون من الصعب تحققها في اللغة وفي المعرفة المبرمجة.
إن المثقف الذي أفرزته الماكينات الآيدولوجية في منتصف القرين العشرين،والذي كان ضحية الاصطفافات السياسية والحروب الإعلامية؛لايستطيع أن يعيش حياة هانئة وسعيدة في يومنا هذا،فكلما استبد به الوهم وازداد احساسه بالخديعة ازداد شقاء وانعزالا عن المجتمع والطبيعة البشرية،وكلما انفصل عن لغته أو تعرى منها أصبح قريباً من الجنون والإجرام.
كما أن بعض المثقفين سقطوا سقطة كبرى ومدوية في فخ الهويات الفرعية القاتلة والتي تستمد قوتها ووجودها من المقدس التاريخي .
لو أجرينا تشريحاً دقيقاً للأنساق الثقافية لمضمرة وتفكيك خطاباتها خلال تمرحلها التاريخي،سنجد أن وظيفة الثقافة السائدة:..هي احتكار الحقيقة،وتزييف الوعي بالمثاليات المشوهة،ومحاربة كل استثنائي حر وحصره داخل جدران الظلام لفترة طويلة من الزمن،إن لم نقل تهميشه وإقصاءه تماما عن الساحة الثقافية.
إن المتن الثقافي المتمثل بالمؤسسات المركزية هو الوجه الخفي للسلطة،وهو السند الحقيقي لها في حال في تعرضها للإنهيار والأزمات. وبين المؤسسة السياسية والثقافية علاقة تبادلية عميقة الجذور في تاريخنا ؛لذا فإن جميع الصراعات السياسية والأيدلوجية والطائفية،والمهاترات داخل المؤسستين السياسية والدينية،نجدها ظاهرة ومتحققة بامتياز داخل الوسط الثقافي،لكن بطريقة ماكرة وأكثر تحضرا .
تصرف المؤسسات الثقافية (وهي بالأصل مؤسسات احتفائية إعلامية تهتم بالبهرجة والأضواء والأشخاص بعيدا عن الجوهرالثقافي) ملايين الدولارات من أجل الندوات والمؤتمرات الوهمية،والمهرجانات الشعرية المضحكة المليئة بالناعقين والمهرجين.
لو آمنا فعلا أن الثقافة هي فعل جمعي خلاق وليست فردانية موحشة وانكفاء على الذات
هل من الممكن أن تقدم الثقافة شيئاً للإنسان في زمن الضجيج والحروب والآلات؟
هل أطعمت جائعاً..أو كست عريانا ..أو أنصفت مظلوما؟؟
وهل فكر أحد فينا لماذا تسوق لنا النخب الثقافية في كل عام مظاهرالترف السلطوي والخطابات المتعالية الجامدة ؟
هل سألنا أنفسنا لماذا اصبح العمل الثقافي مظهراً من مظاهر الترف المتعالي؟ ولماذا تتاجر النخب الثقافية بمعاناة البسطاء وتسرق منهم براءتهم
لكن السؤال الأهم هنا ..هل يمكننا هدمالمؤسسات الثقافية المركزية تلك التي تستند لمرجعيات العنف؟
ومتى سيولد الإنسان الجديد المنتصر على ذاته؟،، ذلك الذي يصارع في كل لحظة القبح المستشري في هذا العالم،مهما اربدت أحلامه، وتآمرعليه أنبياء الشر في الزمن الخراب.