حامد المالكي – سيناريست عراقي
ولا يزعلون مني، أصحابي العظماء هناك، فهم خارج سياق المقال.
تعود ذكرياتي الى هذا المصير (الشارع) لسنوات صارت اليوم بعيدة، فقد صادف أن مرضت، وكل أمراضي صارت بالصدفة، بدءاً من مرض القلب، الذي سبّبته لي، طبيبة تخدير شقراء بعينين خضراوين، في عملية زائدة دويدة عام 1998، فقد تغزّلت بها وهي تدسّ المخدّر في وريدي، سألتها: “من أين أنت؟ ولِمَ أنت جميلة بهذا المقدار من اللعنة؟” ضحك الجرّاح ومساعدوه، بينما اكتفت هي بحمرة ساحرة ارتسمت على خدها، ودون وعي منها، دسّت جرعة مخدّر فائضة عن حاجة جسدي وقت ذاك، مما تسبب بوقف نبض قلبي، لم يعيدوه الى الحياة إلا بعد عدة “نتلات كهربية”. لكن القلب أصيب برجفان الأذين، حتى أن طبيبا سوريا سألني بعد عشر سنوات، وهو “عانيّ” ينحدر من البوكمال السورية، عن نوع المخدر الذي أتناوله، هيروين أم كوكايين، لأن مرضي الـــ AF وهذا اسمه المختصر، يصاب به، من يتعاطى جرعة فوق قدر احتمال كآبته من المخدرات، فصرخت بوجهه، معتبرا هذا السؤال بمثابة إهانة توجه للعراقي، الذي يفضل شرابه المحلي، العرق المصنوع من التمر، على كل مخدرات الدنيا، لأنه وحده يستطيع فك الزحام المروري الخانق، الذي في رؤوسنا كعراقيين، أدمنوا رغما عنهم، الحروب والحصارات القاسية، ثم الشعارات الوطنية الزائفة، التي يرددها اللصوص، وهم يكسرون خزائن البنك المركزي بقوة القانون.
أنا أسامح طبيبة التخدير الجميلة، رغم أنها سببت لي مرض القلب، ومن بعده داء السكري والضغط، أتمنى أن ألتقي بها اليوم لأقول لها مرة أخرى: ” لم أنت جميلة بهذا المقدار من اللعنة”.
في منتصف التسعينات اصبت بمرض آخر نادر، اسمه (الصداع العنقودي) وهي قنبلة عنقودية تشبه قنبلة الشقيقة، لكنها ألعن وأكثر صرامة وانتظاما في انفجارها اليومي، الدقيق التوقيت، توسلت كل أطباء العراق، نصحني الطبيب النفسي، الدكتور م السامرائي، وأتمنى معرفة مآله اليوم، لقد صار صديقا “أتكيتيا” أكثر من طبيب، حتى أنه باح بأسرار كرهه للسلطة، حين لم يجرأ أخ على مثل هذا الاعتراف -المؤدي لحبل المشنقة- أمام شقيقه، نصحني السامرائي بأن أترك الكتابة -وكنت حديث احتراف- بسبب الوحدة التي تسببها، كذلك كآبتها المقرفة، مع الكم الهائل من السكائر التي أدخنها، والعمل في مكان فيه حركة سوق وضوضاء وعلاقات يومية، ومزاح وشجار وتنافس، ذلك لأن الكتابة “تجلب الذل وألم الرأس” كما قال لي، ربما لم يقلها لي، بل هي من بنات تصوراتي! قلت له: “لكني يا دكتور لا أجيد سوى الكتابة والكتاب”. “ما رأيك بأن تبيع الكتب في المتنبي؟” سألني بطريقة ماكرة، وقفت كقائد منتصر بعد هزائم سريالية، نعم، هذا اقتراح عظيم، على الأقل أخلص من المكتبة العظيمة التي أنفقت الآلاف من أجلها، لاحظ، كان العصر عصر آلاف، لا عصر المليارات اليوم، أي منزلق انزلقنا؟
في اليوم التالي ذهبت الى المتنبي، وتحديدا الى الراحل “نعيم الشطري” أبو ربيع، وقد كان صديقا لي، صاحب أول وآخر مزاد لبيع الكتب، حيث كان صوته الجهوري، يغزو شارع المتنبي، من كص أبو زينب، عند مدخل شارع الرشيد، حتى كُبَّة أبو علي، مدخل السراي، أو رائحة شاي السيد الخشالي، صاحب مقهى الشاه بندر. قلت له يا عم، أريد بسطية لبيع الكتب، فرحب بالفكرة، كقرصان كتب شريف، يترقب خليفة له، سحبني من يدي، وعبر بي الى الضفة الأخرى من الشارع، كان يجلس في مربع صغير، شاب أسمر ورجل كثير التدخين، الأول هو توفيق التميمي، والثاني هو الأستاذ “كاظم الشويلي” أبو فراس الذي رحل قبل عدة سنوات، وقال بلكنة آمرة: “وفروا مجالا لحامد”. هكذا صار عندي أول “بسطية” لبيع الكتب بمساحة متر مربع في شارع المتنبي، كان هذا على ما أتذكر عام 1996.
“بسّطتُّ” بكتب مكتبتي، وكان هذا كل رأس مالي من حطام الدنيا، وفي رقبتي تتعلق زوجة وبنت حلوة، كان هذا قبل عام 1997 تاريخ هجرتي الى عمّان الأردن، للبحث عن فرصة عمل، عندما صار العراق كله، مَعِدَة كبيرة مفتوحة للجوع، وتلك قصة ثانية.
لم أذهب الى شارع المتنبي منذ أكثر من ثلاث سنوات، لقد فقد -كما كل بغداد- رونق أصالته وابتكاره الذي لا يوجد مثله في المعمورة كلها، رغم أني والفنان بلاسم محمد “الراحل الباقي” عملنا على ترميمه، قبل سنوات، إلا أنه صار شارعا مغبر الوجه، بسبب دور النشر الفتية التي تطبع بضع مئات من النسخ، لكتّاب شباب وعلى نفقتهم الخاصة، لتوهِمهم أنهم يسيرون في طريق المجد، عندما يكتفون ببضعة صور، يوقّعون فيها كتابهم البسيط، لنشرها في مواقع التواصل الاجتماعي!
لقد تجاوزت الخمسين وما زلت أخشى نشر روايتي وعدّة كتب أخرى، لإدراكي بأن متعة الكاتب لا فيما ينشر، بل فيما يكتب، مات العظيم “كافكا” ولم ينشر مقالا واحدا، لا كتاب! أوصى زوجته الجميلة بأن تحرق كتبه، لكن طمع السيدات المدللات، جعلها تقدم إرثه للنشر، فعلّمنا الرجل، أن من الممكن أن يصحوا الواحد منّا، ليجد نفسه صار صرصارا كبطله “غريغور سامسا” الذي هو أنا وأنتّ!
لهذا السبب، صرت أكره شارع المتنبي.