حسين الصدر
كتب رياض الفرطوسي هنا بغداد العصية .. بغداد الشوق والطفولة والحب‘ بين بغداد وبغداد تشكلت معاناتنا الاولى. ازمنة نأت بنا عنها الى شواطىء الاغتراب والحنين. بغداد التي طردت هولاكو وتحنت انهارها بحبر الدم. هي التي قهرت الظلم والاستبداد. الساحرة والمدهشة والنابضة بالحياة. رغم مشاهد الترويع والموت والجنون والقسوة‘ والحيف والخراب والحزن والتعب. هذه المدينة التي تكظم غيظها تأسيا بمن يرقد فيها‘ كاظم الغيظ موسى ابن جعفر( ع ). وتمثلا بصبر الامام الاعظم ابا حنيفة النعمان. بغداد الصامتة التي تتأمل النهر. وهي ترسم حدادها الاسطوري والازلي وراياتها السود ومواكب شهداءها البررة. بغداد حكاية الفقراء والشعراء والمعوزين والمنبوذين والمحرومين. بغداد المسورة بالاسى والشحوب والاناشيد التي تمجد نهرها الخالد. وترفع لافتات الحداد للشهداء. هي صلاة للناسكين والعارفين وهوس المدمنين على حبها. لن تكون مأوى لاولئك الذين تناسوا اوجاع اهلها. في لحظة زهوهم بالحكم والرياسة والجاه والسلطة. هذه المدينة المبجلة التي تكره الاعداء وتلفظهم. وترفضهم وتنتصر عليهم. بغداد الساحرة والمجنونة والعاشقة والمتمردة ولو بعد صبر. بغداد التي حكمها المجانين وحاول الطغاة من تركيعها. ولكنها ابت لانها ستبقى عروس النهر التي لا تقبل‘ ان يمس يدها مختل او معتوه او خصي او خائن. بغداد الغافية على اوجاعها وعطشها‘ وارصفتها المثلومة وصدأ اراجيحها ومعوزيها ومهمشيها ومحروميها. بعض الساسة فيها يتصارعون ويتناحرون فيما بينهم‘ وهي تنزف بصمت‘ والابرياء ضحايا قلق الساسة ومزاجياتهم. بغداد المتعبة والمتربة والمنهكة‘ يقصدها العابرون والتائهون والغرباء عن اوطانهم. يقفون على ابواب مقاهيها التي توقفت اسطواناتها عن الدوران. وجدران بيوتها التي اكلها الرصاص والسواد والحرائق. بماذا تتحصن هذه المدينة المبجلة‘ وهي عزلاء الا من دعاء ناسك‘ وصرخة ام في ضريح الجوادين مرة و ضريح النعمان في أخرى.
من التاريخ الى الجغرافية
-1-
من يقرأ التاريخ ويتأمل في ما وقع فيه من أحداث، وَيُلِم بأحوال الرجال يجد أنَّ كثيراً من ذوي الفضل والبراعة في العلوم والآداب لم يكن حظهم الاّ الاهمال والتضييع ..!!
ويجد أنهم كانوا يتجرعون غصص إقْصائهم عن المواقع العليا التي كانوا يستحقونها
وهذا يعني :
انّ تقديم المفضول على الفاضل ظاهرة ملحوظة في كل العصور ،
وإنْ كان (العراق الجديد) قد جمع مِنَ الامثلة الصارخة على ذلك ما جعله يتصدر قوائم الدول التي مُنيت بالكساد والفساد ..!!
-2-
وممن كثرت حسراتُه على ما عاناه من الاهمال والتضييع :
أبو الصلت الأندلسي (ت 528 )
فقد تنّقل في البلاد ومات غريبا
{ راجع شذرات الذهب /ج4 ص 235 }
فاسمعه ماذا قال :
وقائلةٍ ما بالُ مِثْلِكَ خاملاً
أَأَنتَ ضعيفُ الرأي أَمْ أنتَ عاجزُ ؟
فقلت لها : ذَنْبِي الى القوم أنّني
لِمَا لَمْ يحَوُزوهُ مِنَ المجدِ حائز
وما فاتني شيءٌ سوى الحظ وَحْدَهُ
وأمّا المعالي فهي عندي غرائِزُ
وهو هنا يندب حَظَّه ، ويعتبر سوء الحظ هو السبب الكامن وراء تأخيره وحجبه عن المواقع التي كان يستحقها .
وليس من الصحيح التعويل على الحّظ واسناد كل الجرائر والمفارقات اليه ،
نعم نحن لا ننكر أنَّ التوفيق قد لا يحالف بعض ذوي المواهب والمناقب…
-3 –
لقد كان المرحوم الشيخ عبد الكريم الزنجاني – وهو من علماء النجف المشاهير – قد سافر الى سوريا ومصر وحين سمع الدكتور طه حسين خطبته بادر الى تقبيل يده وقال :
” هذه أول يدي أُقُبلُها ”
أتدرون ماذا كان سبب وفاته ؟
انه مات بسبب سوء التغذية، كما جاء في التقرير الطبي، وهذا ما سمعته من السيد محمد سعيد ثابت – الذي كان من محبيه –
أليس من الظلم الاجتماعي الواضح ان يموت مِثْل هذا الفيلسوف الكبير جوعاً ؟!
-4-
وفي العراق الجديد ضُربت المعايير الموضوعية عَرْضَ الحائط وتم الاستناد الى المعايير التي ما أنزل الله بها من سلطان وِفْقَاً لِبدَعِ المحاصصة التي اعتمدها سياسيو الصدفة ، وكان من آَثار ذلك اقصاء ذوي الخبرة والقدرة مِنَ المهنيين الكفوئين عن تسنم المناصب المناسبة لهم لأنهم لم ينتسبوا الاّ الى الوطن ، ولم يرتضوا الانتساب الى أية جهة سياسية ..!!
-5-
انّ ما نشهده مِنْ سوء الخدمات، وما نعانيه مِنْ أزمات، يعود في جذوره الى أقصاء الخبراء الأكفاء والمهنيين المخلصين عن المواقع التي يستحقونها ، ولو عُهدت اليهم لنهضوا بأداء المهام خير قيام .
والخاسر الاكبر في هذا هو الوطن والمواطنون، فيما أُتْخِمَتْ بطونُ الفاسدين بالمال الحرام، وبالثروة الوطنية المسروقة .