علي حمود الحسن – ناقد عراقي
عباس كياروستمي، الذي غادرنا في الرابع من تموز 2016، عن عمر ناهز 76عاما، مخرج سينمائي ايراني يحرك كاميرته بقلق شاعر وعمق مفكر، سمته التجريب والاشتغال على موضوعات مفارقة للمألوف، وهو ليس تجريبيا مدرسيا البتة، انما باحث دائم عن جوهر الاشياء، مادته الخام الدنيا بحالها، لكنها الدنيا المنتقاة من خلال وسيط يعي تماما امكانياته، تجاوزت فلامه ذات الميزانيات المتواضعة المحلية الى رحاب العالم، و”نسخة مصدقة” انتجه كياروستمي خارج ايران، وهو الاول من بين افلام كياروستمي الحادية والعشرين، الذي صور خارج ايران وبدعم ايطالي فرنسي، وهو ينتمي لسينما المؤلف، الكتابة عن أفلام كياروستمي، انما هي تحية لهذا الراحل العظيم، الذي قال عنه الناقد السينمائي روبي كولين: ” انه صانع معجزات ساحر
ملحمة عشق فريدة
انبثقت فكرة الفيلم من حكاية خيالية، قصها المخرج على
مسامع الممثلة الفرنسية جولييت بينوش في زياراتها المتكررة الى طهران لأداء دورها في فيلم كياروستمي “شيرين وخسرو “، الغريب في اسلوبه ومحتواه، اذ حشد له مجموعة من وجوه نساء في صالة سينما لا نراها، يشاهدن عرضا سينمائيا لملحمة العشق الفريدة للأمير الفارسي خسرو والاميرة الارمنية شيرين، التي نرى تأثير أحداثه على وجوه النسوة الاتي يسقطن تجاربهن الشخصية عليها ؛ فثمة وجوه آسيانة وملامح ترسم خارطة الالم ، من خلال لقطات مكبرة وتوليف خلاق وتلاعب بالظل والضوء ، نشاهد حيوات تلك النساء من خلال ما يظهر على وجوهن من انفعالات، احدى تلك الوجوه ذات الطاقة التعبيرية الفائقة، كان لجولييت بينوش، التي جهدت لقراءة تعاليم الاسلام والاطلاع على اسرار الشرق الساحر، علمها كياروستمي ايضا كيف تبكي، شغفت به وبرؤاه الجمالية، اصطحبها في رحلة من طهران الى اصفهان، وتزجية للوقت حكى لها عن تجربته بالتعرف على امرأة لا يعرفها سابقا، لكنهما افترضا معرفة ما، وراحا يعيشان حياة متخيلة مشتركة، ابدت بينوش اعجابها بالحكاية، وحينما الحت على معرفة نهاية القصة، اجابها انها قصة متخيلة، لا جذور لها في الواقع، ازداد اعجابها وشرعا في تنفيذها فيلما
.قصة الفيلم
الفيلم يحكي علاقة ملتبسة بين كاتب بريطاني، حقل اشتغاله
علم الجمال الفن، وامرأة فرنسية اربعينية تعيش مع ابنها الفتى، تعمل هي الاخرى في تجارة المقتنيات الفنية والاثرية، يلقي جميس ميللر- يؤدي دوره مغني الاوبرا وليام شيميل- محاضرة بمناسبة حفلة توقيع كتابه ” نسخة طبق” الاصل المترجم الى الايطالية، تحضر صاحبة المتجر (جوليت بينوش) تجلس في الصف الاول تأسرها شخصية جميس وطريقة تعبيره عن افكاره عن اصل الاثر الفني وصورته، لكن ابنها يفسد متعتها في الاستماع، اذ يثير ضجيج، فتضطر على اثره للمغادرة، وقبل ذلك تترك عنوان متجرها ليزورها جميس، كي يطلع على مقتنياتها، توبخ الابن الذي يبدو متعلقا بأمه ولا يريد لها الاهتمام بغيره، في اليوم التالي يأتي جميس لزيارة متجرها، تصحبه في رحلة بالسيارة لتعرف على معالم توسكانيا المدينة الايطالية الجميلة، ولأنهما مهتمان بالفن يبدآن حوارا عن اشكالية الفن والى اي مدى مطابقة الصورة للأصل، ويتشعب الحديث لتنثال رؤى وافكار عن مكنونات الشخصيتين
معالجة بصرية.
تعامل كياروستمي في معالجته للسيناريو الذي كتبه بنفس
فضلا عن الحوار، مع الطاقة التعبيرية لبطلة «المريض الانكليزي» جولييت بينوش، والاداء التلقائي لوليام شميل – يعمل في السينما لأول مرة- موظفا اللقطات المكبرة، والمتوسطة القريبة الحوارية، التي تعكس انفعالات الوجه الانساني، الحوار؛ هو البطل الحقيقي للفيلم، فهو مكثف وشاعري، متضمنا اشارات وايماءات ذات دلالات عالمية، فثيمة الفيلم الاساسية، هي أزمة منتصف العمر، التي تعصف بالحياة الزوجية، فهما وبعد عقدين، او اكثر من الحياة الزوجية، حيث يكتشف احداهما جغرافية الاخر، تبدأ ارهاصات وتساؤلات وجودية، عن نهاية المطاف والآمال المؤجلة، وعن الايام التي ولت هاربة بلا مسرات، يتولد حلم يداعب اوتار القلب، وهذا ما حصل لـ “هي”، جميس هو الاخر يعاني شرخا روحيا ويبحث عن مرفأ اخر يجد في “هي” ضالته، فهما مهتمان بأهداف اخرى غير السعادة الزوجية التقليدية، لديهما ما يقولانه ، ينهمكان في لعبة تبادل الادوار، التي اجادا لعبها لساعات، في محاولة لا واعية للتشبت بحلم مضاع، انا اعتقد ان التصدي لهذه الموضوعة مغامرة لهذا المخرج المأخوذ بعمر الخيام وتجليات سعدي الشيرازي السهلة الممتنعة، فهو بدا لي كالمهرج الذي يمشي بحذر على خيط مشدود، فمن جهة يمتع الجمهور، لكنه من جهة اخرى، سيدفع حياته ثمنا لأية غفلة، اذ من الممكن ان يخسر الجمهور الاوروبي والاميركي، الذي وقف له مصفقا ومرحبا، لولا انه حول البناء السردي الحواري الى بناء تشويقي دفع بالأحداث قدما، لعبت الاضاءة دورا كبيرا في مشاهد القبو، وكذلك المشاهد التي تظهر انكسار البطل واحباطه بعد رحلة زواج طويلة فيما بدت الزوجة مشرقة يغمرها نور الامل، لتصل ذروتها التعبيرية في مشهد الاختتام في غرفة الفندق، اذ تبدو النافذة المضاءة اقرب للطبيعة الجامدة «استل لايف» فيما صوت الزوجة المبحوح بالرغبة يتحدث عن جمال تفاصيل المشهد، ينتهي الفيلم كأية قصيدة شعرية قابلة لمستويات متعددة من التأويل.