محمد خضير – كاتب عراقي
في مثلّثٍ رمادي، قوامُه قلمُ الرصاص والحِبر، ترتسم أشكالُ الفنان العراقي علي رضا سعيد_ المقيم في تونس_ على الورق، بقياسات متقاربة، فتشكّل مفهوماً قائماً على تمازج الأجساد الإنسانية في أوضاع رهيفة، وتناغمٍ منظوريّ لمساقط الظلّ والضوء، وتواشجٍ تركيبيّ مع الطبيعة_ الأشجار والمدينة العتيقة_ بحسّ عاطفي وموضوعي خالصين. يشكل مثلّثُ التخطيطات هذا عالمأً تصميمياً، تحصر أضلاعُه المفهومية توقَ الفنّان للسكن في ظلاله واسترجاع مشاهد من حياته وبيئته ودراسته ومعارضه الشخصية (بين ديالى وبغداد وتونس). إلا أنّ حصيلة هذا المثلّث الأساسية تتجلّى في رؤية الواقع على حالته البدئية_ خطوطاً تتجمع بهدوء وبطء أحياناً، وضجة وعنف وتسارع أكثر الأحيان. إنّ الخطّ في حقيقته التشكيلية يستبطن حركةً ضمنية ضاغطة، تستدخلها الرسومُ، كما تستدخل الفنّانَ المتأمّل حركةُ الكون والحياة حول مثلثه الإبداعي.
وفي بؤرة المثلّث التخطيطي هذا، تنعكس انخطافاتٌ خارجية دائبة، توحّد الفنانَ ببنيةِ الواقع المتحوّل في محلّيته وعالميته؛ حيث تتواتر الخطوطُ وتلتفّ على نفسها، حاضنةً المرجعَ الانشائي الذي يمدّ الفنانَ بطاقته. فهو _المرجع_ إذا حسبناه عراقياً، عاد بأبعد الانعكاسات البيئية التي نشأ الفنان في أحضانها قبل هجرته، واذا حسبناه عربياً (تونسياً أو فلسطينياً) منحَنا هذا الانتماء رؤيةً متواشجة بإحساس قومي متأصِّل في تجربة الفنان الفكرية؛ أمّا عالمياً فينتقل الأثر المتبقّي من رواق اللوحات المعتَّقة للوجوه ومناظر الطبيعة الى أسلوب الفنان التعبيري الخاص بظلاله كما تأصّلت أولاً في تجارب الفنانين العالميين الخطّية الأساسية (بيكاسو وماتيس وهنري مور). وفي صميم هذه البؤرة أيضاً، ينبغي التمييز بين الوظيفة الإيضاحية لنصوص أدبية، خلال عمل الفنان في صحافة بغداد، ومَفهمة اللوحة التخطيطية في عمل مستقلّ، فيما بعد.
إننا نرضخ لهذا التأسيس الأوليّ للانطباعات والمفاهيم، في تجربة الفنان علي رضا سعيد، بناءً على معرضه الأخير في جاليري الأورفلي بعمّان (تواشجات معاصرة، ١٧ فبراير_ ٥ مارس، ٢٠٢٠) وعلى تخطيطات قلم الرصاص المهيأة لمعرض قادم في السنة ٢٠٢١. وفي التخطيطات الأخيرة يستخلص الفنان طاقةَ الخطّ على التناغم والتمازج والتواشج، بمعزل عن تأثير الألوان والخلفيات التركيبية، ليتبدّى الشكل في وحدته الرمزية، وأبعاده الفردية، متطابقاً إلى حدّ بعيد مع حساسية الشعور الرمادي للذات المنفعلة سلباً بالوضع الانساني، وغموض الواقع المادي، وتهديد الطبيعة المتعاظم للروح المغتربة عن وطنها وبيئتها. إنه استرجاع ضروري بأقلّ الدرجات تكلّفاً، وأعمق الحالات تناغماً وتواشجاً. ولا تقلّ الأشكالُ الخطّية عن غيرها من اللوحات المكتملة_ تركيبياً، وتقنياً؛ إذ أنّها تنطوي على نقاط شروعٍ ممتلئة بطاقتها الكامنة في التركيب والإنشاء. والحقيقة، إننا نثق بهذه الإنشاءات الخطّية لدلالتها الأكيدة على مهارة الفنان الدراسية وخبرته الخالصة في تأمل الأشكال داخل فراغها التصويري، وعزلتها الكاملة عن أيّ تأثير خارجي. إنها الحالات الوحيدة التي نؤمن بتشكلّها بواسطة اليد، وارتسامها العميق على ورق الذات الحسّاس.
مقارنة بتجارب عراقية (تخطيطات جواد سليم وعلاء بشير وضياء العزاوي وفيصل لعيبي وصلاح جياد) فإنّ تخطيطات علي رضا سعيد ولوحاته الحبرية أحدثت فارقاً كبيراً في التصور والإنشاء عمّا سبقَها وعاصرَها. فقد حاولت لوحات الفنان سعيد_ التي عرضها تحت عنوان “رماديّات”_ تخطّي الشعور بأوليّات الأشياء المرسومة (كروكيّاتها) والارتسام على سطح الورق إنجازاً كاملاً.. ليس بعد ارتسامها الخطّي ما ينقض تركيبها البسيط أو يملأ محيطَها بالإشارات والعلامات (وهي بهذا تختلف كذلك عن لوحات يحيى الشيخ الخطّية، بالرغم من اشتغالهما على النسق ذاته، فهذه تدعم نصوصاً وأشعاراً داخل محيطها التصويري، لم يدُر مثلها في خَلَد الأول). وعلى هذا البحث في محيط اللوحات الإشاري، سننظر الى أعمال رضا سعيد، نظرة خالصة من التداخل النصي. إنها نصوص مهيأة بحدّ ذاتها للتأمّل والتصوّر والإرجاع الواقعي والشخصي.
نشر الفنان مؤخراً، على صفحته في الفيسبوك، بورتريهات قلمية لأصدقائه الفنانين، من جيله وصُحبته؛ وباعتقادي فهي انعطافة شخصية وحسب، تفترق عن لوحات الفنان “رماديّات” التي يعتبرها من مخرجات أسلوبه الأساس “وشائج معاصرة”. فهو يعتمد في تنفيذ تلك الوجوه على: “الشكل المبسط والتركيز على الظل والضوء” كما كتبَ لي. أما رسوم “الوشائج” الخطّية والحِبرية: “فهي تخضع الى توزيع مختلف في النور والظل الذي لا ينفصل عن الحالة النفسية التي أعيش تفاصيلها وهو مايميز تجربتي الفنية، لها خصوصيتها في التعبير وتقنياتها في التصوير الذي يعتمد اللعب على استخدام الخطوط وتنوعها ومعالجة الملىء والفراغ والظل والنور الذي يولد ايقاعات تترجم طاقة الفراغ الى أشكال تحمل روحا وتعبر عن أحلام يقظة نتلمسها في تلاحم الأجساد وتواشجها مع بعضها لتذكر بأصولها الرافدينية القديمة التي تمثل مشاهد مشرقة في تاريخ الحضارات القديمة”_ كما كتبَ في كلمة معرض عمّان ٢٠٢٠.
هذه باختصار، نظرات متفحّصة لتجارب التخطيط، كما نشرها الفنان علي رضا سعيد على صفحته الشخصية في موقع الفيس بوك، أو أرسلها مع رسائل الماسنجر. أما النظرة الحقيقية التي سينطبع من خلالها مدى التمازج والتناغم والتواشج، كما تتبدى للعين المباشرة في معرض شامل للوحات، فهي مشروع كتابة من نوع اوسع.