د.خالد شوكات
جزء من الَّذِين ابتهجوا لقرارات الرئيس سعيّد مساء يوم 25 جويلية 2021، على الرغم مما تتضمنه من تعسُّف على الدستور وخروج على مرجعية الانتقال الديمقراطي، مردّ ابتهاجهم تقديرهم أن الرجل قد أعلن الحرب على الاسلام السياسي وسيقوم بإخراجه من الحكم، الذي استمر مؤثرا فيه لعشر سنوات، وعند هؤلاء تتصدّر ايديولوجيا (رهاب) معاداة الاسلاميين والخوف من الاخوان كل أولوية، وهي مُقَدَّمة على الدستور والديمقراطية والدولة المدنية، لكن لا أحد من هؤلاء توقّف عند مسألة في غاية الاهمية، قد تحمل لهم ولغيرهم مفاجأة من العيار الثقيل، تجسّد إلى حدّ كبير تلك العبارة التي لطالما تندّر بها القوم خلال السنوات الماضية، “لقد انتظرناهم من الأمام فجاؤونا من الوراء”، إذ ما هي علاقة “قيس سعيّد بالإسلام السياسي يا ترى؟”، وهل يعادي الرجل هذه الظاهرة فعلا ويسعى إلى تفكيكها ونقض عراها، أم أن خلافه بل صراعه مقتصر على حركة النهضة ويدور أساسا في فلك السلطة أو عليها؟
ما هي مرجعيّة قيس سعيّد الفكرية؟
تشكّل مرجعية رئيس الجمهورية برأيي اشكالية حقيقية، فهناك الكثير من الغموض – المقصود ربّما أو غير المقصود- حول الفكر الذي يحمله الرجل، اذ لا توجد له قبل وصوله الرئاسة نصوص مكتوبة تجلي هذا الأمر، فلا كتب أو دراسات أو ورقات أو مقالات فكرية نشرها يمكن أن تساعد الباحث على تبيّن الحقيقة، حيث تمترس سعيّد وراء تخصصه كمدرس جامعي للقانون الدستوري، خصوصا زمن النظام السابق، نظام بن علي، الذي كان في حرب مفتوحة مع الحركات الاسلامية، وكان مجرد اشتمامه رائحة الانتماء الاسلامي على أحدهم، خصوصا اذا كان موظفا عموميا كما هو حال رئيس الجمهورية الحالي، يعني تعريض المعني بالأمر لعقوبات شديدة من بينها الطرد من الوظيفة، أما بعد الثورة فقد استغرق سعيّد غالب وقته في تناول الإشكاليات والقضايا الدستورية التي اضحت غالبة على المشهد العام، ومنحت المتخصصين في القانون الدستوري نجومية لم يكونوا يحلمون بها، وفيما ما عدا مداخلاته الإعلامية في هذا المجال، فإنه لا أثر مكتوب باستطاعة المتابع الاعتماد عليه في تبيّن الخط الفكري لمن ملأ الدنيا وشغل النّاس؟
غير أن المدقّق قليلا في سيرة سعيّد سيجد بعض الاثار التي تدلّ عليه، سواء قبل فوزه بالرئاسة أو بعدها، وهي تصبّ في أربعة مصادر أساسية، تؤطرها قوالب الظاهرة “الشعبوية”، وهي مصادر تقع في أطراف الحركة الفكرية العربية الاسلامية، لا في مركزها، وهو ما يعزز نسبيا “النظرية الخلدونية” في علاقة المركز بالأطراف والبادية بالحضر، وهي في رأيي كما يلي: اليسار الاسلامي (او الاسلاميين التقدميين) المتأثر بأدبيات الثورة الاسلامية الايرانية، وحزب التحرير الإسلامي، واليسار الفوضوي النقدي، والنظرية الجماهيرية التي تعود في جذورها الى مدارس الديمقراطية المباشرة.
هذه الخلطة الفكرية التي تبدو غير متجانسة، قابلة كما اعتقد للتجانس اذا ما التقت مع شخصية قلقة متوتّرة مستعّدة نفسيا وعقليا لتقمّص دور “المخلّص”، والمخلِّص مقاربة “دينية” بامتياز، ظهرت خصوصا في المجالين المسيحي والإسلامي، ومن صورها عبر التاريخ الإسلامي المقاربة “المهدوية” التي كانت المحرّك الأول للسلطة وأهم عوامل التغيير السياسي في التاريخ العربي الاسلامي عاى امتداد اربعة عشرة قرنا ونيف.
سعيّد..صورة “المخلّص” وخطابه؟
إن تحليل الصورة وتحليل الخطاب، كلاهما يدعم إلى حدّ كبير نظرية “المخلّص” التي يبدو أن الرئيس سعيّد قد امتلأ بها روحاً وطموحاً وسلوكاً، وبدأ في الكشف عنها مباشرة بعد الثورة. الرجل الذي يتحرّك في هوامش البلاد ومناطقها النائية، يجلس مع المهمّشين والغاضبين في المقاهي ويمشي بين النّاس في الأسواق، يبشّرهم بكلماته المبهمة بأن ساعة الخلاص قد اقتربت، وأن أعداءهم وخصومهم “سيرحلون جميعاً”، فذلك شرط من شروط الخلاص..كان الرجل حريصا على إظهار تدينه، مثابرا على صلاة الجمعة في الأحياء الشعبية، مؤكدا على إخلاصه للثورة، والأهم تشبثه بالحديث بلغة عربية فصحى “متكلّفة”.. إنها علامات قرب ظهور المهدي في الادبيات الشيعية والسنية على السواء، مهدي سيملأ الأرض قسطا وعدلاً وسيطهّر الوطن من الفاسدين بعد ان امتلأت جوراً وظلماً.
هكذا تحوّل الرجل بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية إلى الخليفة عمر بن الخطّاب، الشخصية الآسرة في المخيال الجمعي الاسلامي السني، فقد اصبح من الضروري تعديل البوصلة قليلا بعد ان تعالى همز المرائين ولمزهم حول عقيدة الرئيس الشيعية وصلته بالجمهورية الاسلامية، ومن هنا أضحت “العمرية” الإطار الافضل للمرحلة الزمنية، فهي قابلة من جهة لاستيعاب المخلّص أو على الاقل لا تتناقض معها، اذ ما احوج الامة الى حاكم مثل عمر كما يقول بعضهم، وهي من جهة أخرى ترفع عنه حرج الطائفية وكل حساسية لدى التونسيين من ارتباط بأجندات غامضة عابرة للوطنية.
علينا أن لا ننسى هنا، المكانة التي أعطاها الرجل للقضية الفلسطينية في تصريحاته الإعلامية خلال حملته التفسيرية (الانتخابية)، والتي تعزز صورة المخلص أو المهدي، الرافض براديكالية لمسارات التطبيع مع الكيان الصهيوني، والداعي إلى تحويل جامعة الدول العربية إلى جامعة الأمّة العربية، وهم ما اثلج صدور التونسيين، بل كثيرا من العرب والمسلمين.
وبإتمامه المرحلة الأولى من مسيرة “المخلّص” يوم 25 جويلية 2021، قبض الرجل كما يفعل الخلفاء تماما طيلة التاريخ الاسلامي، على جميع السلطات واضحى المنفذ والمشرّع والقاضي، الذي لا حاجة له إلى حكومة، والذي يكلف مسيّرين بالوزارات، ويرعى شؤون الرعية مباشرة، ويقضي بينهم بالعدل.
لقد كانت تصريح حمادي الجبالي حول الخلافة السادسة والذي جلب عليه وعلى حركته الغضب النخبوي العلماني والحداثي والديمقراطي الى اليوم، لا شيء قياسا بمن أصبح فعليّا “خليفة” بصلاحيات الخليفة الفردية والمطلقة، على أن تتمّ البيعة العامة له قريبا كما هو مخطّط عبر الاستفتاء. ها قد أتاكم الخليفة السادس من الخلف يا من انتظرتموه من الأمام!؟.
هل بقي من إسلامية النهضة شيء يخيف؟
لقد هوجمت حركة النهضة بلا هوادة طيلة السنوات العشر، إذ لم تكفّ النخب العلمانية والحداثية والديمقراطية عن إيذائها وتوجيه السهام تلو السهام لها. ولم يمنع تبدّل الأحوال السياسية، أو تعاقب المراحل، أو تتالي الهزائم الانتخابية، هذه الهجومات يوما، حتى بلغت ذروتها مع “الظاهرة العبيرية” الصارخة على امتداد سنتين.
وعلى الرغم من التنازلات المتتالية، الفكرية والسياسية وحتى السلوكية، التي قدّمتها النهضة لخصومها، إلى حدّ قال معه البعض بأنّه “لم يبقى للنهضة من اسلاميتها شيء” حتى أغضبت نصف أنصارها على الاقل، فإن ذلك لم ينل قبول أعدائها ولا رضاهم. لقد حلقت غالبية قياداتها لحاها، ولبسوا بما في ذلك شيخها ربطات العنق، وادمجوا في هياكلها نساء سافرات ورجالا يعاقرون الخمر، وقبلوا بمدنية الدولة وبالنظام الديمقراطي وفرّطوا في الحكم – المباشر على الاقل- رغم فوزهم الانتخابي، وفعلوا بإيجاز كل شيء يخرجهم من دائرتهم الاسلامية، الى دائرة الوطنية والديمقراطية والحداثة، ومع ذلك لم يقبل منهم أو بهم، وظلت عداوتهم عقيدة كثير من الفاعلين النخبويين.
لكن ما لم يعترف به خصوم الاسلاميين وأعداؤهم الأيديولوجيين، أن الاسلام السياسي ليس رأسمالا حصريا للنهضة، وان هذه الظاهرة لها عمق شعبي حقيقي، يمكن ان تعبّر عنه ظواهر اخرى مبتدعة لطالما ميّزت التاريخ الاسلامي في المغرب والمشرق على السواء، والمخلِّص إن كان المهدي بن تومرت أو عبيد الله المهدي أو قيس سعيّد ربّما، ليس سواء إحدى هذه الظواهر.
أما معاداة سعيّد الطارئة لحركة النهضة، بعد ان استفاد منها انتخابيا، فواردة بين أبناء المدرسة الفكرية والسياسية الواحدة، فخصومة حزب التحرير أو داعش أو السلفية الوهابية مع الاخوان المسلمين ليست جديدة، تماما كما هي الخصومة بين بعث العراق وبعث سوريا، أو بين الستالينية والتروتسكية.. بل إن العداوة بين الإخوة قد تكون أشد وأقسى منها بين الأغيار، خصوصا اذا كانت صراعاً حول السلطة.
ها أن النهضة قد أراحتكم أيها السيدات والسادة ربمّا، لكن الإسلام السياسي لن يريحكم أبدا، بل لعلَّ إقصاء النسخة المعتدلة منه يسمح لنسخ اشد راديكالية للإعلان عن مشروعها.. ما كان الإقصاء يوماً حلّا، وما كانت الديمقراطية إلا تسوية سياسية وفكرية عادلة تنظم الاجتماع السياسي بناء على القاسم الوطني والتعايش المشترك..وانظروا كيف ستتدبرون أمركم مع المخلّص الذي دعاكم إلى الرحيل الجماعي، وقال أنه لا ضرورة للتعددية الحزبية و المدنية أو للفصل بين السلطات.. يكفيكم برأيه أن يكون حاكمكم نظيفا وعادلا.. مثل عمر بن الخطاب، لا تخرج عن دائرة اهتمامه حتى بغلة عثرت في العراق..لكن بغلة الديمقراطية فيما يبدو هي التي عثرت في تونس، وليس من اهتماماته أن يسوّي لها الطريق، فلا مخلِّص لها إذا إِلَّا وعيا لست واثقا من وجوده.