د. حسن حميد – كاتب فلسطينيي
قديماً ، قالوا: أينما صدفت الحكمة خذها ، لأن فيها خلاصة تجارب من سبقوا، وتجارب من بنوا ، وتجارب من حلموا أيضاً .. لهذا تركتْ رسالة صديقي في نفسي أثراً بعيداً غور إلى داخل الروح، لأن فيها حكمة ضافية بعيدة في معانيها السامية.
كتب صديقي إليَّ قائلاً : أنا في تشيلي ، يا صديقي أراود حلمي وأحاوله في حيازة شهادة الدكتوراه في العلوم الطبيعية لأنني لم أجتاز امتحان القبول في الفيزياء ، وأنت تعرف كم أحب الفيزياء ، كم أعشقها ، لكن العلوم الطبيعية كلها فيزياء إن شئت المعرفة ، لا أريد أن أحدثك عن أشياء كثيرة في تشيلي ، وإنما سأقصر حديثي عن هذه الظاهرة الأدبية التي دوّختني ، وهي تدور حول شاعرهم الشهير بابلو نيرودا، هنا وفي ذكرى ميلاد نيرودا (1904-1973) تشعر حقيقةً أن كل شيء في تشيلي يدور حوله، حول سيرته الذاتية وحول شعره، ومقالاته، وآرائه، والسيناريوهات التي كتبها للسينما، ليس الأمر مقصوراً على أنشطة ثقافية وأدبية ، أبداً وإنما هو أمر مفتوح على جميع جوانب الحياة التشيلية ، محلات تجارية قديمة وجديدة تحمل اسمه، دور سينما ، وساحات وشوارع في مدن تشيلية عدة تحمل اسمه، مدارس وجامعات، ومكتبات تتحدث عنه، تصوّر أن ساعات الصباح الأولى ، من يوم ميلاده ، يتعرف الطلبة سيرة حياته ومختارات من شعره، وفي جميع مدارس التشيلي ، وأصحاب مكتبات يوزعون طبعات شعبية جديدة من أعماله على هذه المدارس والجامعات ، معارض للكتب تقام في الحدائق والساحات، وعروض للأفلام السينمائية التي كتب سيناريوهاتها تعرض في الأمكنة المغلقة والمفتوحة في آن، أما إذا دخلت إلى قاطرات القطار فستجد مئات النسخ من كتبه مرتبة بالقرب من أبواب القاطرات تنتظر من يأخذها ويقرأ فيها ، ومئات النسخ من كتبه موزعة قرب كراسي الجلوس في الحدائق، ودور النشر تتسابق في كل عام، كي تحظى بشرف طباعة مؤلفاته طبعة جديدة تحمل اسم الدار وتوزع مجاناً على المدارس ، ورواد المقاهي والحدائق والمطاعم ! وحين تمر بالساحات والشوارع ستجد صور بابلو نيرودا موزعة في جميع الجهات، منها الصور الكبيرة جداً التي تضاء ليلاً، والصور الصغيرة أيضاً، وإن دخلت مطعماً أو مقهى أو دار سينما سيواجهك إعلان كبير واضح الحروف والكلمات يخبرك إن دخلت المطعم أو المقهى أو دار السينما، فإنك ستخرج ومعك طبعة شعبية للأعمال الكاملة لـ نيرودا، وثياب الشباب والكهول والأطفال مزينة بصوره .
أما الأمكنة التي عاش فيها نيرودا ، أو التي عمل فيها موظفاً أو التي ذكرها في قصائده، فإنها تحولت إلى كرنفالات اجتماعية، لا سيما المدارس التي درس فيها، وفيها تجد معرضاً لصور نيرودا ونماذج من صفحات كتبها بخط يده منذ أيام طفولته وحتى قبل رحيله بقليل .
وحين تخالط الناس، في ذكرى ميلاد نيرودا، ستستمع إلى أحاديث وأخبار وقصص كثيرة تدور حوله، وكأنه هو من حرر تشيلي من الاستعمار الإسباني ، أو كأنه هو من بنى تشيلي، والحق، وحين تقرأ أعماله ستجد وبيسر شديد أنه هو من حرر تشيلي من الاستعمار الإسباني وأنه بناها لأنه تحدث طويلاً في قصائده عن التحرير والمقاومة و البناء .
واختتم صديقي رسالته بقوله، وقد سمعت أن الروس يحتفلون هكذا بـ بوشكين ، وأن أهل داغستان يحتفلون هكذا بـ رسول حمزا توف .
لهذا اسألك وأنت الكاتب متى يعرف أدباؤنا الكبار تقديراً مثل هذا التقدير الذي رأيته لـ بابلو نيرودا ؟