علاقة التعقل بالمحبة

علاقة التعقل بالمحبة

 

د. علي المرهج – كاتب وأكاديمي عراقي

 

إذا كان أغلب المُحيطين بك لا يفقهون التعقل، فثق أنهم من النادر أن يفقهوا معنى المحبة، وقد يجتمع هذان المفهومان في الفلسفة التي تعني “حُب الحكمة”، فلا معنى لتعقل مجرد من دون محبة، ولا معنى لمحبة يكون الوجدان والعاطفة هما أساس تكونها بعيداً عن التعقل.
يستطيع إنسان ما العيش في وهم التعقل الصارم للوجود والعالم والحياة، ويستطيع آخر العيش في وهم معطيات الوجدان والعواطف، وكلاهما خاسر لا محالة، فـ:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينـعـمُ

من الصعب الحكم على عواطف ومشاعر لا حاكم لها، فالقول بأنها ثابتة أو مُطلقة مثلما ذهب إلى ذلك عدد من الفلاسفة المثاليين والتأمليين، نجد ما يُقابله بالقول أن القيم نسبية ومتغيرة من مجتمع إلى آخر، بل من إنسان إلى آخر.

يرى العديد من الفلاسفة أن الحب حاجة غريزية تبدأ من حب الأم والأب للأولاد، وصولاً للحب العذري، أما أنواع الحب الأخرى مثل محبة الصديق لصديقه أو محبة الأزواج لزوجاتهن أو محبتك للأقارب، فهذه محبة تأتي بعد التجربة والتعايش.

القول بأن الفلسفة تعني حُب الحكمة، هو قول أقرب للقول الوجداني منه للقول الفلسفي الذي يقتضي التعقل!، فأن أحب الحكمة لا يعني أن أكون فيلسوفاً مثل سقراط، ولكن الحُب هو الخطوة الأولى (الإيمانية) لنتمكن من بناء معرفة عقلية بعد سعي جاد للمعرفة الفلسفية التي تقصد الحقيقة.

لا أخوض فيما كتبه الفلاسفة عن الحُب، وكله لا يبرر قبول هذا المفهوم قبولاً منطقياً أو عقلياً وفق بناء استدلالي برهاني، بل هو اعتراف بوجوده كحقيقة وجودية، وعلى الفلاسفة البحث عن تبريرات عقلانية للقبول به.

أن تُحب أمك أوتُحبك أبيك، هذا أمر طبيعي، ولا تفسير منطقي له، لهذا نجد أن أغلب أحاديث الفلاسفة عن الحُب إنما هو من باب المعرفة الصوفية القائمة على الاعتراف بقيمة الفطرة أو الغريزة كأداة ناجعة لمعرفة معنى الحُب.

أن تُحب أحداً، فهل يعني ذلك أنك تكره آخرين؟، قد يكون هذا الرأي مقبول، ولكن من وجهة نظري لا علاقة جدلية بين الحب والكراهية، فقد تكون سجيتك الحُب، ولا تُضمر كراهية لأحد، ولكنك قد تستاء من آخرين بقدر أو آخر، لذلك يعتمد الفلاسفة في دفاعهم عن الحُب كقيمة أخلاقية لا من جهة التحقق منها نظرياً أو تجريبياً يصح تعميمه، بل من جراء الدراية بحياتنا نحن الأفراد الذين نُعبر عن قيمة الحب، وهو عندنا تجربة ذاتية لا تقبل التعميم، فنحن لا نعرف ولا نستشعر مقدار محبة قيس بن الملوح لليلى، ولا عنتره لعبلة، ولا روميو لجوليت، ولا مقدار حبك لأمك أو أبيك بالقياس لحبي لأمي ولأبي، لأنها تبقى تجارب فردية تشبه إلى حد كبير التجارب الصوفية، بل والتجارب الدينية.

لا جواب عند أغلب الفلاسفة القدماءسوى ربطهم للحب ببعده اللاهوتي والميتافيزيقي الذي هو ضرب من ضروب المعرفة قد يكون الخيال فيه أكثر من التعقل، لهذا أعتقد أن ترك هذا المبحث بعيداً عن تفسيراتهموتاويلاتهم في تبريره عقلياً أفضل من البحث فيه على نحو يجعله أقرب للتنظير في عوالم الخيال التي يصح للأديب الحالم أن تكون موضوعات لاشتغالاته أكثر من الفيلسوف.

يرى اسبينوزا في كتابه (رسالة في إصلاح العقل) أن الحب ينشأ عن تمثل شيء ومعرفته، وبقدر ما يكون الشيء في نظرنا رائعاً وعظيماً، يكون حبنا له رائعاً وعظيماً.
وليس باستطاعة أحد التحرر من الحب إلّا بطريقتين إثنتين: إما بمعرفة شيء أفضل منه، أو بما تُخبرنا به التجربة عما يجرّه الشيء المحبوب، الذي كُنا نراه رائعاً عظيماً، من تبعات نحسة مشؤومة.
ومن ميزات الحب أنه مُقيّد للمُحب، وتقييده مُحببٌ عنده، ولا سعي له للتحرر منه لأنه أسير الهوى، ولا يجد ضرراً في أسر الحب، إنما فيه تُسر النفس وتُسعدُ. ففي الحب وجدٌ وإنوجاد وتنقية للروح من دونها لا نُوجدوا.
فبالحب استئناس ورؤية عقل لما في جمال المحبوب وكل ما فيه مُستحسنُ، وفي الحب ذوبان في المعشوق وتوحدُ.
وإن كان قصد سبينوزا بالحب تعلقاً بهوى الأزلي الثابت، لا بالفاني الذي لا يجد له في فلسفة سبينوزا مقعد.
فالله هو من تملك الحب كله في فلسفة سبينوزا، فهو زمان الأزل والأبدُ، ففي حبه لله كمال لأنفسنا وتجددُ. فهو العلة الأولى بما فيها من جلال ومقصِد.

يُفصّل زكريا إبراهيم في كتابه (مشكلة الحُب) عن “حُب الذات” الذي لا تفسير عقلي له سوى أنه الأقرب للمحافظة على البقاء، ولا يرتضي كل إنسان التخلي عن وجوده و”التنازل عن البقاء”، وقد ذكر ذلك (شوبنهور) من أن “يُريد لنفسه كل شيء”، وهو في الوقت ذاته “حب للذات” يحمل بين طياته الشعور بالثقة، فهم الإنسان الحقيقي هو كيفية كسب نفسه أولاً.
ولا يكتمل وجود الإنسان بحبه لذاته، بقدر ما يستدعي الوجود في هذه الحياة التفاعل مع الآخرين بوصفهم لأن قولة “أنا” تستدعي الاعتراف بوجود “آخر” وهذا ما ماكتب عنه “هيدغر”، واستكمل معناه “بول ريكور” في كتابه “الذات عينها كآخر”.

(Visited 2 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *