في ذكرى غياب عبدالوهاب البياتي

في ذكرى غياب عبدالوهاب البياتي

 

 

د.حاتم الصكَر – ناقد عراقي

*رحيلٌ صوبَ بحرٍ يتنهد

قلتُ لأمّي الأرض

لا تجزعي
فهو الذي حدثني عنكِ
أورثني الفقرَ
وها انني
أرزحُ تحت تاجِه الشوكي
إن حكت الحياة عن بؤسها
فماذا عن بؤسنا نحكي؟
البياتي- من ديوان البحر بعيد..اسمعه يتنهد

لكـأن عبدالوهاب البياتي (19-12-1926/ 3-8-1999) كان يمهد لرحيله ومرثيته الشخصية حين أصدر عام 1998 أي قبل عام من غيابه الأبدي ديوانه ( البحر بعيد ..أسمعه يتنهد) فقد كان من أواخر إصداراته الشعرية بل هو ديوانه ماقبل الأخير،
و لم يُصدر بعده إلا (نصوص شرقية).لكن اللافت في الديوان هيمنة ثيمة الموت على موضوعاته ، وبالطريقة ذاتها التي عالج بها البياتي مشكلة الموت كسؤال وجودي يضع الكائن أمام مصيره بعد رحلة الحياة ،وبالضرورة أمام ماضيه ومستقبله كعابر فيها مثل سائر البشر.
من الرمزية الرومانسية إلى الدلالة الوجودية
يمثل البحر في عنوان الديوان خروجا يشبه الهروب تلبية لنداء غامض.لم يكن البياتي شاعراً رومانسياً لنفسر رمزية البحر بأنها رغبة من الشاعر في هجران الحياة واعتزالها ، لجوءاً إلى صفاء الطبيعة وقوتها وجمالها المتمثلة في مفردات كثيرة يتقدمها البحر بغموضه و ألوان مائه وأفقه المترامي..كان البياتي يفهم الحياة بأحداثها ووقائعها أي بما أنها واقع معيش..ولكنه لم يلتزم إلا في بداياته الشعرية الأولى بالمعنى التقليدي للواقعية التي تنشغل بتصوير الواقع مرآتياً أي بانعكاسه المقرَّب شعريا بالصور المنتزعة منه أيضاً ،والمحيلة إليه كمرجع مؤثر بذرائع إجتماعية وسياسية معروفة، وبفهم محدود للأدب كله بأنه تمثيل مباشر لمظاهر الواقع ونماذجه لكن رؤية البياتي تطورت بفعل تقدم وعيه وتحرره من الأفكار والنظريات الجاهزة فتحول من تلك (الرؤية ) الواقعية إلى (الرؤيا ) التي تحمل في ثناياها العمق في تأمل جوهر الحياة ودلالة الموت والغياب، وما يمكن أن يوقفهما رمزياً كحدثين حتميين؛ فوجد ضالته في النصوص الصوفية التي تحكي عن حياة المتصوفة ومواجدهم ورغبتهم في الفناء في المحبوب والاحتراق من أجل ذلك، كما تفعل فراشات النار في سعيها لاكتشاف كنه النار وجوهرها فتدفع حياتها ثمنا لحب المعرفة.
تنهدات البحر : إشارات الغياب
يؤاخي البياتي كشاعر راءٍ بين الوجود والعدم، والحضور والغياب ، والماضي والحاضر، والواقع والأسطورة..وبين الحياة والموت بالضرورة. من هنا ذهب إلى نداء البحر ليسمع تنهداته.إنه ذلك القوي الغامض الجميل، لكنه يعاني كالموجودات الأخرى.والعنوان هو عنوان قصيدة داخل الديوان يستهلها بالقول:
البحر بعيد لكني أسمعه يتنهد
سفن ونوارس
يحملها الموج إلى الأبعد
لقد حذف الشاعر من العنوان حرف الاستدراك (لكن) وأبقى الجملة خبريةً تنبئ عن صلته المباشرة بالبحر وقربه منه رغم بعده .
هذا التماهي بالبحر وسماعه لايتحققان إلا بالفناء فيه على الطريقة الصوفية أي الإحتراق في حبه والالتحام به.لذا جاء مناسباً تماما لهيمنة موضوعة الموت في الديوان التي اعتبرناها استباقاً لغياب الشاعر الوشيك.
تعضد ذلك الحس الاستباقي بالموت قصيدة الديوان الأولى المعنونة( شهوة الحياة) فإزاء الاشتهاء كحاجة جسدية ومادية يبرز الفقد والغياب فيستهل الشعر القصيدة والديوان كله بالقول:
متُّ من الحياة
لكنني
مازلت طفلا جائعا
يبكي
كدودة تقرض تفاحةً
كان هو الموت
وكالسيركِ
مهرجٌ يسرقنا خلسةً
ونحن في دوامة الضحكِ
قصيدة البياتي التي استهل بها الديوان تذكرنا بقصائد دواوينه الوزنية المنظومة بما يعرف بالعمود((ملائكة وشياطين) و(أباريق مهشمة) فهي مكتوبة على البحر السريع المتميز بكثرة حركاته وسكناته ، وملتزمة بالشطرين رغم هيئتها الخطية القائمة على التوزيع السطري، أي وصع الكلمات متناثرة على السطر دون الالتزام بالشطرين.حتى أننا نستطيع ترتيبها كلها بيسر فتصبح مثلاً:
متُّ من الحياة ولكنني ما زلت طفلا جائعا يبكي
..نذبل في ليل المنافي ولا نشبع في عناقنا منكِ
هذه العودة إلى آليات الإيقاع التقليدي والعدد المحدود للتفعيلات يشيع جواً كابوسياً كالندب بصوت عالٍ في الديوان؛ لتكرر العموديات لاسيما في المراثي التي نجدها للأعلام والشخصيات. قصائد عمودية هي مراثٍ مهداة (إلى بلند الحيدريوالحواهري ومحمد شمسي وأخرى في وصف أبي تمام وعمر الخيام ) وثمة مرثيتان حرتان: واحدة مهداة إلى نجيب محفوظ والثانية إلى الشاعر الروسي جوزيف برودسكي.ونلاحظ نظم العموديات على البحر السريع حتى مرثيته الشخصية ( شهوة الحياة) ويمكن تأمل الدلالة الإيقاعية في هذا الاختيار للوزن نوجزه بالقول إنه استثمر الوقفات والحركات الكثيرة مستفعلن مستفعلن ،وكأنها ترميز لإيقاع الحياة المتسارعة ثم توقفها الساكن: فاعلن.
الفقر والعزلة
من أين يجيء الحزن؟ يقول البياتي وهو يسرد تجربته الشعرية إنه تأثر بمناظر الفقراء والمجذوبين الذين يعيشون بجوار مرقد الشيخ الصوفي عبدالقاهر الكيلاني ببغداد بلا مصدر للحياة .بجوار هذا المرقد ثمة الحي الشعبي الذي نشأ فيه البياتي ( باب الشيخ) وفي مكتبة المسجد قرأ الكتب مبكرا واختزنت ذاكرته تلك الصور التي يقول إنها كونت وعيه بالحياة وبحثه عن العدل والحرية.
لقد عبَّر البياتي عن معاناة البشر المحرومين والمضطهدين والضعفاء ، ونشدَ تحقيق العدل المفقود،فحلم في إحدى قصائده أن( يُمنح الشحاذُ عرشَ الشاه) لتكتمل العدالة.
الموت عدل ، حسنا
فلتكن الحياة عادلةً
وليُمنح الشحاذُ عرشَ الشاه
لكنه يعلم أن المعادلة التي ينشدها ليست هينة الحصول رغم منطقيتها، فراح يعترف
في لحظة شعرية: حزينة ودراماتيكية بأننا:
نذوي كما تذوي الزنابق في التراب
فقراء- يا قمري- نموت
وقطارنا أبداً يفوت
هكذا أكملت النهاية حزنا لم تكشفه القراءات السياسية المركزة على ظرفية قصائده وأغراضها المباشرة متجاهلةحزنه ومعالجته الوجودية لمسألة الموت لا بمعناه الحرفي، بل ما يسميه الموت في الحياة.
لكن المفارقة الحقيقية تكمن في ما انتهى إليه شعر البياتي من عزلة عن (جمهوره) الذي يراه الشاعر هدف االقصيدة. ورغم كثرة ما كتب عنه من دراسات وأطروحات .فسرعان ما تناسته الكتابات المنشغلة براهن الشعر وقضاياه دون الالتفات إلى مرحلة التأسيس بما لها وعليها، وللبياتي بما ترك من تراث شعري تظهر في نصوصه تبدلات الشعرية العربية وتحولاتها الأسلوبية والموضوعية، رغم تمسك البياتي بالوزنية التي خفف من سيطرة القافية على إيقاعها بعد تحوله المعمق إلى الرؤيا وكشوفها المعرفية وإفادتها من الأساطير و باستخدام الشخصيات السحرية أوذات المصائر الغامضة كابن عربي ووضاح اليمن والحلاج وسواهم..
هل كان شعر البياتي غربياً؟
نستطيع التأكيد باستعراض ثيمة( البحر بعيد..أسمعه يتنهد) أن البياتي تأثر بمشاهد الواقع وبقراءاته المبكرة وبإدراكه لمشكلة الموت كمعضلة وجودية.ولا نتفق مع ما ذهب إليه للدكتور إحسان عباس- في كتابه “البياتي والشعر العراقي الحديث” من أن البياتي ينقل لنا “صورة لم نألفها من قبل، وحين نقرؤها نستذكر مظاهر كثيرة كانت تجري في الشعر الأجنبي..”.
ومن ثم كان البياتي بحسب إحسان عباس ((قد سخّر الشكل الجديد لمؤثرات خارجية مختلفة تجاوزت التحوير للمواجد الرومنطيقية الذاتية)).وهذا تشخيص تعوزه المستندات النصية ،لا الارتكازعلى بساطة اللغة والجملة الشعرية القصيرة لدى البياتي. فيظل الواقع ملهم البياتي ولكن بوعي متطور قاده إلى استباق واقعة الموت بكيفاتها المعرفية القريبة من التأمل المجرد.

(Visited 30 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *