مواويل جنوبية
عبدالسادة البصري
وأنا أخطو صوب المدرسة ، كان أبي يحثّني على المواظبة والنشاط والدراسة بجدٍّواجتهاد كي أحصل على الدرجات العليا ، وكل ما أحتاجه يوفره قائلاً : أريدك تنجحوحينما تكبر تصبح دكتورا أو مهندسا أو أستاذا !
كنت أجيبه : لا بدّ من هذا حتماً !
في الابتدائية كنت الأول دائما ، حتى في الامتحان الوزاري حصلت على المركز الثالث فيعموم المحافظة أوائل السبعينات ، رغم أنني من قرية في أقصى جنوب الجنوب ،ووالداي أميّان.
في المتوسطة أيضا كنت من الأوائل ، وشاءت الصدف أن يرحل والدي في أول أيامالامتحان الوزاري للسادس الإعدادي ، ما أربك وضعي النفسي لأترك الامتحانات وأعيدالسنة بالكامل ، فتأثر وضعي بشكل كبير ، وتغيرت مساراتي كلها ، خارج إطار ما حلمتبه وحلم به أبي أيضاً وكما يقال :ــ تجري الرياح بما لا تشتهي ..
تذكرت تلك الأيام رغم أنني حصلت على الدبلوم والبكالوريوس ، لكنني أشعر بالغبنوالحزن لأنني لم أحقق حلم أبي رغما عني طبعا !
تذكرتها وأنا أشاهد أخوتنا وأخواتنا أصحاب الشهادات العليا والمهندسين يهانونبطريقة بشعة، لا تنمّ عن وعي ومعرفة بما تعنيه الشهادة العلمية حزّت في نفسيونفوس الجميع ، كما شعرت بالأسى والحسرة على وطن يهان فيه صاحب الشهادة الذيسهر الليالي وكافح كي يحقق حلمه وحلم أهله ، بلا سبب سوى انه طالب بحقّه فيالتعيين والعمل لغرض توفير لقمة العيش ، وهذا الحق تكفله كل دساتير العالم ، لأنللمواطن حقاً في العيش الرغيد والسكن اللائق وفرص العمل والعلاج والتعليم والمكانةالاجتماعية المرموقة في وطنه ، لا أن يترك في مهبّ الريح تتقاذفه أمواج العوز والفاقةوالبحث عن فرصة عمل هنا وهناك دون جدوى وبلا مأوى وتنخر الأمراض جسده ،وحينما يتظاهر مطالبا بحقّه يهان وتطلق عليه صفات وألفاظ لا يقبل بها العقل والضمير!!
إذا تعاملنا مع العلم بهذه الطريقة البائسة ، فكيف لنا أن نسعَ لبناء وطن ، ونحققمستقبل أجيال قادمة تحلم بالعيش كما الناس في كل بلدان العالم ؟
لماذا نجعل من أبنائنا أعداءَ لنا ، ونعاملهم وكأنهم جاءوا من كوكب آخر وحرامٌ عليهمالعمل والعيش والسعادة ، ما يجعلهم في حيرة من أمرهم بين البقاء أو شدّ الرحالوالهجرة إلى الخارج لتستفيد من خبراتهم وشهاداتهم بلدان أخرى ؟!
لماذا لا نفكر بآلية بناء الوطن الجديد بشكل صحيح ، ونخطط لذلك بضمير حي وعقلعراقي خالص النقاء ، كي نقدم أنموذجا راقياً وحضارياً في التخطيط العمراني لكلشيء ؟
احترام العلم ، وتقدير الطالب والأستاذ والطبيب والمهندس والفنان والشاعر والكاتبوالعامل، احترام لإنسانية الإنسان ولتربة الوطن وقدسيته ، وسعي حثيث لبنائه بمايليق باسمه حقا.
لهذا علينا أن نعيد حساباتنا ونعي مسؤولياتنا تجاه الوطن والناس حتما !