باسم فرات – شاعر وكاتب عراقي
تتحدث المصادر البوذية القديمة عن الحرب بإدانة واضحة تمامًا وبدون استثناء، لأن الحرب تتضمن القتلَ، والقَتلُ يُعدُّ خرقًا للوصية الأولى، أي القتل، ولا يُمثل سبب الحرب قيمةً كبيرةً سواءٌ أكانت الحرب تُخاض لسببٍ هجوميٍّ أم دفاعيٍّ؛ لأن خسارة الأرواح ستحدث نتيجةً لها؛ ويُعبّر بوذا عن وجهة نظره في “سوترا نيباتا” (كتاب ساميوتا نيكايا) فيقول: “إن الجنود الذين يموتون في المعركة لا يدخلون إلى جنة خاصةٍ، بل يدخلون إلى جحيم خاصٍّ، إذ في لحظة موتهم كانت عقولهم مصممةً على القتل”؛ وتؤكد بعض المصادر أنه حتى القتل دفاعًا عن النفس أو دفاعًا عن الأسرة أو الأصدقاء يُعدّ خطأً، وتمدح في العموم توجّه عدم المقاومة عند التعرُّض للعنف، ويروي التعليق على مجموعة أقوال “دامّابادا” كيف كان شعب ساكيا “أقارب بوذا” عندما تعرضوا للهجوم في إحدى المرات، فقد رضوا بأن يُقتلوا بدلًا من أن يَخرقوا الوصية الأولى.
مع هذه السلبية المتطرفة، والتي تتناقض مع النزعة الإنسانية في الحياة والدفاع عن النفس والوطن، نجد أن البوذيين يشيرون إلى الملك “أشكوا” بوصفه نموذجًا يوضّح كيف يجب أن يحكم الحكّام من خلال وسائل سلمية، وهذه الوسائل السلمية تتجلى في أن “أشوكا” الذي حكم إمبراطورية كبيرةً في الهند في القرن الثالث الميلادي، وبعد ثماني سنوات من تتويجه أَمَرَ جيوشه بمهاجمة كالينجا، وهي منطقة على الساحل الشرقي، نجحت في مقاومته، فكانت النتيجة قتل مائة ألف في المعركة وهُجِّرَ مائة وخمسون ألف شخص، ومات عدد أكبر من ذلك في الاضطرابات التي صاحبتِ الحملة.
هذه المجزرة البشعة أدَّت إلى تغيُّر كامل في قلبه، فقد شَعَرَ؛ بل أيقن؛ بفداحة ما ارتكب، ونتيجة لذلك تخلى عن استخدام الحملات العسكرية، واستبدالها بالدارما، وقال: “إن الغزو بالدارما أفضل أنواع الغزو”، وهو بهذا تَمـثّل الملك البوذي الصالح “تشاكرافارتين”؛ وهو شخصية أسطورية، يُصوّر على أنه يغزو سلميًّا من خلال قوة الدارما، مع أنه كان يحتفظ بجيشه ويصطحبه معه في كل “أسفاره” إلى الممالك المجاورة، والسؤال: هل هناك غزو سلميّ، غزو بالدارما، والجيش بكامل شكيمته يدخل البلدان المجاورة؟
بينما يستخدم نص من بوذية الماهايانا؛ يحمل اسم “ساتياكاباريفارتا” والذي يعود على الأرجح إلى القرن الثاني الميلادي، مفاهيم لتبرير الحرب والتعذيب والعقوبات القاسية دعمًا لحملات الغزو من أجل نشر نفوذ البوذية، وهو يناقض الصورة المرسومة عن بوذا المسالم حدّ السلبية. وقد أظهر لنا التاريخ أن التطبيق كان مع العنف، ففي السجل السنهالي “ماهافانسا” يُعدّ الملك السنهالي (السريلانكي) البوذي دوتهاجاماني (القرن الأول الميلادي) بطلاً قوميًّا، لأنه هزم الجنرال التاميلي “إلارا” وهذا السجل التاريخي الذي يروي تاريخ جزيرة سريلانكا، يصور الصراع على أنه نوع من “الحرب المقدسة” بين البوذيين والهندوس، ويُمجّد النصر البوذي. وحين شعر بالندم بعد الانتصار، طمأنه “وعاظ السلاطين”- بحسب علي الوردي- أي: الرهبان المتنورون “الآرهات”؛ بأنه ما دام يدافع عن “الدارما” فإنه لم يفعل شيئًا مخالفًا للوصايا البوذية.
منذ القدم امتزجت البوذية والسياسة في تاريخ سريلانكا، ووجدت علاقة تبادلية وثيقة بين المعبد البوذي والدولة، وكان الملوك يحظون بالترسيم (التنصيب) من قِبل الرهبان، مثلما عليه الحال في العراق القديم ومصر القديمة، والأغلبية البوذية السنهالية تُشكّل نحو 70% من السكان، وقد زاد تطرفُ الرهبان البوذيين سخونة الأحداث، وذلك بتشبيه الخلاف بينهم وبين التاميل بالحرب المقدَّسة والمطالبة بإجراء تعديل دستوريّ تمييزي، وبلغ هذا الأمر ذروته في سنة 1959م، عند اغتيال رئيس الوزراء “إس دبليو آر دي بانداراناكي” على يد أحد الرهبان البوذيين، الذي شعر بأن موقف رئيس الوزراء يميل كثيرًا إلى المصالحة.
ولم يكن موقف الرهبان البوذيين في اليابان إلا دعمًا للعنف والحروب، ومنها حروب اليابان ضد الصين والحلفاء، وفي سنة 1951م؛ ألقى الراهب المبجل شينداو خطابًا قال فيه: “إن إبادة الشياطين الأمريكيين الإمبرياليين الذين يدمرون السلام العالمي تتفق مع المعتقدات البوذية”، وعلى الرغم من تأكيد التعاليم البوذية على السلمية؛ فإن التاريخ يكشف التورط المستمر للبوذيين، العوام والرهبان على حدٍّ سواء، في الحروب على مدى قرونٍ كثيرة.