أ.د. سعد التميمي – كاتب وأكاديمي عراقي
يبقى الاغتراب بنية مؤسسة في تجارب كثير من الشعراء وأخذت حيزا كبيرا في تجرابهم الشعرية على مر العصور ،وقد حاولوا أن ينقلوا احاسيسهم وعواطفهم ومعاناتهم في غربتهم بأشكالها المختلفة المكانية والزمانية والنفسية والوجودية الى المتلقي، من خلال تحويل هذه البنية الفكرية الى بنية شعرية تتجلى في مفردات وتراكيب وصور شعرية ومفارقات أسلوبية تنجز قصدية الشاعر ،وتحقق البعد التداولي من الخطاب الشعري من خلال جذب المتلقي الى فضاء الدهشة التي تخلقها الجمل الشعرية داخل القصيدة.
ومن الشعراء الذين عاشوا معاناة الغربة وألهبت مشاعرهم وفجرت قريحتهم ليحيلوا الم الغربة وخرابها الى جمال شعري ،الشاعر عدنان الصائغ الذي ترجم أحاسيسه ومعاناته في غربته في عدد غير قليل من قصائد ديوانه” تأبط منفى”التي نجحت في جذب المتلقي وجعله يتفاعل ويعايش لتجربة الشاعر ،فالغربة موضوع يتفاعل ممن رحل عن الوطن وممن لا زال داخله ، ولما كانت غربة الشاعر قدرا لا خيارا ،فقد بقيت عيناه تنظر للوطن بنظرات يختلط فيها الحزن والحنين ،فجاء تعبيره عن الغربة لينفس عن مشاعر الكثير ممن يشاركونه المعاناة ،فالصائغ يرى في الغربة نفيا مجهول الوجهة ، لذلك جاءعنوان الديوان بوصفه عتبة تكشف عن المحمولات الدلالية للقصائد، فالجملة الخبرية التي يغيب عنها الفاعل المتمثل بالشاعر الذي يتماهى في معمول الفعل (منفى) للدلالة الى الغربة ومما يعزز هذه الدلالة انه اتى بها نكرة ,ويستمر هذا التوظيف للنكرة في معظم عنوانات قصائد الديوان مثل(نص،تأويل،هواجس ،قادة،اتهام،شكوى،خيبات ،علو،معادلة،وجبة،حساب ،حصار،خطوط،احزاب ،اشباح) اذ عكست هذه القصائد بدءاً من العنوان حالة الضياع والتشتت التي يعيشها الشاعر بعيدا عن وطنه، ففي قصيدة “أوراق من سيرة من تأبط منفى” التي تحضر الغربة بوصفها بنية مؤسسة تتحرك من خلالها الصور والمفارقات التي تخلق الدهشة والجمال ، اذ يقول في المقطع الأول من هذه القصيدة:
أتسكع تحت أضواء المصابيح
وفي جيوبي عناوين مبللة
حانة تطردني الى حانة
وامرأة تشهيني بأخرى
أعض النهود الطازجة
أعض الكتب
أاعض الشوارع هذا الفم لا بد أن يلتهم شيئا
هذه الشفاه لا بد ان تنطبق على كأس
أو ثغر
أوحجر
اذ تتشكل بنية الغربة في صور يعكس كل منها الضياعوالحرمان والقلق والخوف ، فتأتي الأفعال (أتسكع ،تطردني ،أعض ،تشهيني )لتتحرك في حقل دلالي ومعجم شعري يوجه المعنى نحو رسم ملامح المنفى الذي لم يختره الشاعر بارادته بل كان يلاحقه اينما حل ، وقد عزز الطاقة الانجازية لهذه الأفعال البعد التداولي لها السياق الذيتتحرك فيه من خلال الاسناد الذي يقوم على الانزياح تارة والمفارقة تارة أخرى ،مثل قوله (عناوين مبللة )و(حانة تطردني ) و(أعض الكتب ) و(أعض الشوارع )فالشاعر يسرد سيرة منفي بضمير المتكلم في صور متوالية، فوصف العنواوين بالمبللة اشارة للضياع وعدم وضوح وجهة المنفى والمحطة الأخيرة من رحلة التيه وقلق الوجود ، ويأتي اسناد الفعل يطرد الى الحانة لتعزز حالة اللاجدوى من الغربة ، فمهما كانت صورة المنفى مبهجة فانها لا تعوض الشاعر عن حضن الوطن ،بما حمله منه من ذكريات ،لعله يعود يوما فتورق الاشجاز وتتفتح الازهار وليقطف ثمار الحرية والسلام وتبقى المفارقات التي تعزز بنية الغربة حاضرة في القصيدة فتصوير التأرجح بين النساء وعض الكتب والشوارع في اشارة التيه والرحلة عبر الكتاب للبحث عن عالم جميل ، وهذا ما يصرح به الصائغ في مكان اخر من القصيدة بقوله(وأمضي طليقا ..ضجرا أو يائسا) وبمقابل ذلك لم ينس الشاعر حجم المعاناة داخل الوطن وما خلفته من جراح وآلام.
وتتكرر صور الاغتراب في معظم قصائد هذا الديوان لتصبح بنية مؤسسة يتحرك من خلالها المعجم الشعري في رسم صور شعرية ذات شحنات دلالية وعاطفية عالية لرسم انعكاسات الغربة على الشاعر في وطنه مرة ومنفاه مرة أخرى ليصل الى نيجة أن المنفى واحد في الوطن وخارجه ويحاول الشاعر أن ينوع في طريقة تشكيلها مستثمرة طاقات اللغة بشكل بارع وهذا مايتضح في قصيدة“يوليسيس“التي يقول فيها:
على جسر مالمو
رأيت الفرات يمد يديه
ويأخذني
قلت أين؟
ولم أكمل الحلم
حتى رأيت جيوش أمية
من كل صوب تطوقني
وداعا لنافذة في بلاد الخراب
وداعا لسعف تجرده الطائرات
من الخضرة الداكنة
وداعا لتنور امي
وداعا لتاريخنا المتاکل فوق الروازين
وداعا لما سوف نتركه في اليدين
وداعاً
نغادره الوطن المر
لكن إلى أين؟
كل المنافي أمر…
فالشاعر في هذه القصيدة يوظف وبشكل متقن قصة الحسين (ع) في غربته عندما واجه جيوش الظلم والفساد من بني أمية ، إذ يشبه الشاعر غربته بتلك الغربة بعد أن حلم وهو يطوف المنفي بوطنه ممثلا بالفرات ، ويأتي توظيف أسلوب السرد هنا ليعزز بنية الاغتراب و يزيد جماليات المعاني المطروحة ، فالشاعر في هذه القصيدة كما في غيرها يصور حاله محاصرا بين نارين ؛ الأولى الوطن بما يحمله من آلام واحزان وانكسارات والذكريات حبلى بالدموع والدماء التي مازالت تنسكب التشكل نهرا ثالثأ جانب دجلة والفرات، أما الثانية فهي آلام المنفى وصدماته ووحشته وهذا ماصرح به الصائغ في آخر هذه القصيدة إذ يقول :
أيهذا الغريب الذي لم يجد لحظة مبهجة
كيف تغدو المنافي سجونا بلا أسيجه ؟
فإذا كانت السجون في الوطن تحاط بالأسيجة من جميع الجهات فإن المنافي وإن كانت دون أسيجة فهي أشبه بالسجون في نظر الشاعر، فالمنفى لايعوض الشاعر عن وطنه وأهله وبيئته التي تغلغلت في دمة ، وبذلك تتضح رؤية الشاعر للغربة وحجم معاناتها ، وعلى الرغم من أن القارئ لهذا الديوان يجد أن لغته تتسم بالوضوح إلى حد ما ،وهذا ما فرضته على الشاعر طبيعة الموضوعات التي عالجها ،التي كانت في مجملها تمس شريحة كبيرة من أبناء شعبه الا إنّه نجح في اختيار المعجم الشعري الخاص بكل قصيدة فضلا عن استثمار السياق بشكل فني ومدروس مما جعله يحيل قبح الغربة والمنفى وخراب الوطن وأوجاعه الى جمل شعري عكسته الصور المتوالية المعبرة والفعالة في القصائد التي من شأنها أن تجذب المتلقي وتجعله قريبا من القصيدة ومعايشا لموضوعها ومتفاعلا مع صورها ، وهذا مايتضح في توظيف التناص في عنوان القصيدة الذي يحيل الى رواية يوليسيس للكاتب جيميس جويس التي تعالج البحث عن الانماء والهوية ،فضلا عن توظيف أسلوب التكرار في كلمة “وداعا“ ، من جهة ، وتوظيف التفاصيل اليومية من جهة أخرى مثل « تنور أمی فضلا عن كلمة “ الروازين” ذات المدلول الشعبي وما تحمله من طاقة دلالية وعاطفية عالية ، أخيراالديوان فيه الكثير من القضايا التي تستحق أكثر من قراءة نقدية للوقوف عند جمالياتها.