عبدالعَزِيز عَلِيّ آل حِرْز – كاتب سعودي
يقعُ كتابُ ( الفلسفة في الجسد ) في (٧٩٨) صفحة، لمؤلّفيهِ: جورج لايكوفومارك جونسون، وقد ترجمهُ وقدّمَ له عبدالمجيد جُحفة، وصدر عن دار الكتاب الجديد المتحدة– ليبيا، في طبعته الأولى، عام ٢٠١٦م.
وقد بيّنَ المترجم في مقدّمته بعضَ الملاحظات الهامّة، مُشيرًا إلى أنّ المؤلفَينِ بانطلاقهما من النتائج التجريبية المتعلقة بطبيعة الذهن واشتغاله، من شأنهِ إعادة بناء الفكر الفلسفي وفق مرتكزات مغايرة، وهو ما تأكيد لتذييل المؤلِّفَين عنوانهما بعبارة (الذهن المتجسّد وتحدّيه للفكر الغربيّ).
وأوضحَ المترجمُ معنى العنوان (الفلسفة في الجسد)، مؤكّدًا أنّ الكثير من التصورات التي تتناولها الفلسفة تصوراتٌ مبنيّةٌ انطلاقا من استعارات، وأنّ استعارية هذه التصورات الفلسفية تتضمن جانبا حرفيّا لا يتعدّى هيكل التصور، وتعمل الاستعارات على كَسْو هذا الهيكل لحمًا.
وتطرّق جُحفة إلى كتابِ لايكوف وجونسون الأسبق وهو (الاستعارات التي نحيا بها) ، وأوضحَ مفهوم الاستعارة لديهما، ثمّ أشار إلى صلة نظريّة الاستعارة بالعلم المعرفيّ، وتحدث عن النموذج الوصليّ للذكاء الاصطناعيّ وعلم الخلايا العصبيّة، وما توصّل إليه جوزيف غرادي وكريستوفر جونسون من دور الاستعارة الأوّلية والنظريّة العصبيّة ، وما تم تطبيقه على الأطفال، حيث إنّهم يتعلمون استعارات أوليه اعتمادًا على دمج للمجالات التصورية في حياتنا اليومية.
ثم يأتي متن الكتاب في أربعة أقسامٍ كبيرة، حيثُ عُنْوِنَ القسم الأوّل بـ (كيفَ يتحدَّى الذهنُ المتجسِّدُ التقليدَ الفلسفيّ الغربيّ؟ ) ويحوي هذا القسم ثمانيةَ مباحثَ، كان الأول منها بعنوان (١– مقدمّة : من نكون؟، كيف يُعيدُ العلم المعرفيّ فتح القضايا الفلسفيّة المركزيّة؟) ، ثمّ ذُيّل هذان التساؤلان بثلاثِ نتائجَ كبرى توصّل إليها العلم المعرفيّ، وهي: الذهنُ متجسّدٌ أصلاً، والفكرُ لاواعٍ في غالبيّته، والتصوّراتُ المجرّدةُ استعاريّة بشكلٍ أكبر، حيثُ يذهب الباحثان إلى أنّ هذه النتائج الكبرى ستقضي أن تتخلّى ثقافتُنا عن بعضِ مسلّماتها الفلسفيّة الأعمق.
وقدْ أوضحَ الباحثان أنْ لا وجودَ لكائنٍ منفعيّ الذي تكونُ عقلانيتُه عقلانيةً اقتصاديّة، يتحكّمُ في تفكيرهِ، فمعظم أجزاء العقل مؤسّسة على النماذج النمطية والاستعارية.
ولا وجود لكائن ما بعد بنيويّ، كائن بلا مركز، كل المعنى لديه اعتباطيّ غير مقيد بالجسد والذهن.
ولا وجودَ لكائن تشومسكاويّ (نسبة إلى تشومسكي) كائنٍ لغته محض تركيب، محض شكل معزول عن السياق والإدراك والعاطفة.
ولا وجود لكائن حاسوبي، ولا وجود لكائن ديكارتي اثنينيّ له عقل منفصل عن الجسد، ولا وجود لكائن كانطيّ له عقل متعالٍ عن الجسد…
يطرح الباحثان فهما جديدًا للذهنِ – وذلك بدحضهما للتقاليد الفلسفيّة الغربيّة – ، حيثُ تبرزُ مسألةُ: ما هو الكائن البشريّ؟ من جديد بالصورة الأكثر إلحاحًا.
وقدْ ناقشا في القسم الأوّلِ من هذا الكتاب المناهجَ الآتية من العلم المعرفيّ ومن اللسانيات المعرفيّة؛ وذلك بهدف إعادة التفكير في مآل الفلسفة أو فيما يمكن أن تصيره.
وأوّل ما ركّزا عليه في القسم الأول هو مسألة (اللاوعي المعرفيّ) مؤكّدَينِ أنّ الكثير مما يُسمّى هنا باللاوعي المعرفيّ هو ليسَ معرفيًّا لدى الفلاسفة الغربيين البتّة، وذلك لأن المعرفةَ لديهم لا تُحدّد داخليًّا في الذهن أو الجسد، وإنما تُحدد بإحالتها على الخارج!
إنّ الميتافيزيقا بوصفها يدًا خفيّةً تتحكّم في نسَقِنا التصوّري اللاوعي وتُشكّله، هي استعاريّة، وليس كما ذهب الفلاسفة عبر أكثر من ألفي سنة حيث حددوا أن الميتافيزيقا هي دراسة ما هو واقعيّ حرفيًّا.
وإننا إن لم نعرف لا وعينا المعرفي بصورة تامة ودقيقة فلن نتمكن من معرفة أنفسنا ولا من فهم حقيقة أسس أحكامنا الأخلاقية وتأملاتنا الواعية.
فالفكر والتصورات – كما يذهب الباحثان– كياناتٌ مُجسَّدة، فالبنيات العصبيّة للذهن هي المسؤولة عن هذا التفكير، وأن هندسة الشبكات العصبية لذهنك تحدد تصوراتك ونوع التفكير الذي تقوم به. وعلى ذلك فلا صحّة لما يقال عن (المَلَكَة النفسيّة) للعقل، فالبراهين المعرفية تؤكد لا وجود لملكة للعقل مستقلة تماما عن القدرات الجسديّة.
وكل الكائنات العصبيّة ينبغي أن (تُمقْوِلَ) ، فالمقولةُ ناتجةٌ عن الكيفية التي نحن مجسدون بها، فمَقْوَلاتُنا تتكوّن عبر تجسُّدنا، فنحن نكوّن بنياتٍ تصوّريّة غنيّة بشكلٍ مذهلٍ لمَقْوَلاتنا ونفكّر فيها بعدّة طرق. وما ذهبت إليه الفلسفة التقليديّة من: أنّ العقلَ متعالٍ وأنّ التصورات البشرية هي تصورات العقل المتعالي بعيدًا عن الجسد ، ومن كون ما يجعلنا بشرًا هو قدرتُنا على التفكير غير المجسّد، هو قولٌ كاذبٌ لدرجة أنّه يحرف فهمَنا للكائنات البشرية وللفكر وللأخلاق ولموقعنا في الكون.
فالتصورات البشريّة ليست انعكاسًا لواقع خارجيّ، إنّها تتشكّلُ بوساطة أجسادِنا وأدمغتِنا، ومن ذلك تصوّرات الألوان حيث إنّ الألوان من صُلْبِ الأشياء فالأزرق في السماء والأخضر في العشب والأحمر في الدم، فتصورات الألوان تفاعليّة فهي تنشأ من تفاعلات أجسادِنا وأدمغتنا وخصائص انعكاس الضوء على الأشياء والإشعاع الكهرومغناطيسي.
وبيّن الباحثان أنّ مقولات المستوى القاعديّ تُميَّز عن المقولات التي لا تعين الأشياء رأسًا بمظاهر أجسادِنا وأدمغتنا وأذهاننا: الصور الذهنية والإدراك الجشطالتي والبرامج الحركيّة وبنية المعرفة، ويتميّز المستوى القاعدي بأربعة شروط:
١- إنه أعلى مستوى يمكن أن تُمثِّل في صورة ذهنية فردية المقولة بكاملها.
٢- إنه أعلى مستوى يكون فيه لعناصر المقولة أشكال إجماليّة مدرَكة بصورة متشابهة
٣- إنه أعلى مستوى يُمكن للشخص أن يستخدم فيه أنشطة حركية متشابهة للتفاعل مع عناصر المقولة
٤- إنه المستوى الذي تنظم فيه أغلب أجزاء معرفتنا.
وإنّ تقسيم المقولات إلى قاعديّ وغير قاعديّ هو تقسيم مؤسّسٌ جسديًّا، أي إنّه يرتكز على الإدراك الجشطالتي والبرامج الحركيّة هذا أولاً، وثانيا إن المستوى القاعدي يتفاعل فيه الناس بصورة مثلى مع محيطاتهم، بالنظر إلى أنواع الأجساد والأدمغة التي يتوفرون عليها والمحيطات التي يُقيمون فيها.
ومن أبرز ما ذهب إليه الباحثان إلى أنّ وقائع مقولة المستوى القاعدي تذكرنا بأنّ أجسادنا تُسهم في إحساسنا بما هو واقعيّ.
كما أشارا إلى أنّ تصوّرات العلاقات الفضائية هي تصورات مجسدة، ذلك أنّها تتيح لنا أن نُفاوضَ الفضاء ونشتغل فيه، فنحن لا نرى القرب والبعد لكنا نرى الأشياء فنسندُ إليها القرب والبعد، إنا نستخدم تصورات الفضاء بصورة لا واعية، ونفرضها عبر نسقنا الإدراكي والتصوّري.
ومن خطاطات العلاقات الفضائيّة (خُطاطة الوعاء) وهي منطقة محصورة في الفضاء، إذ إنّ لخطاطة الوعاء بنيةً هي: داخل، وحدّ، وخارج، وهذه البنية جشطالتيّة، بمعنى أنّ الأجزاء لا معنى لها بدون كلّ.
وكذلك (خطاطة المصدر – المسار – الهدف) وهي خطاطة فضائية، طُوبولوجية بحيث إن المسار قد يُمدّد أو يقلّص ويظل مع ذلك مسارًا، ويمكننا كما هو شأن خطاطة الوعاء أن نكوّن علاقات فضائية من خلال هذه الخطاطة.
فلا يمكن لتصوراتنا أن تكونَ انعكاسًا مباشرًا لواقع خارجي موضوعي متحرّر من الذهن وغير متصل به، لأنّ نسقنا الحسّي الحركيّ يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل هذه التصوّرات. فالاستعارةُ التصوريّةُ تعمُّ كلاًّ من الفكر واللغة، ومن الصعب أن نجدَ تجربةً ذاتيّةً مشتركةً ليستْ مُتصوّرةً تواضعيّا من خلال الاستعارة.
تتكوّن نظريّة الاستعارة الأوّليّة إجمالاً من أربعة أجزاء، هي: ١– نظريّة الدمج عند جونسون أثناء التعلّم ، فبالنسبة للأطفال التجارب الذاتية غير الحسية من جهة، والتجارب الحسية من جهة أخرى تندمج دوما. ٢– نظرية الاستعارة الأوّلية عند غْرادي، فكل الاستعارات المعقدة أو المركبة استعارات جُزيئيّة مكونة من أجزاء استعارات ذرية تُسمى استعارات أوليّة. ٣– النظرية العصبية للاستعارة عند نارايانان. ٤– نظرية المزج التصوري لفوكونييه وتورنر.
لهذه النظرية الموحدة بأجزائها الأربعة المذكورة سلفا اقتضاء جامع: أننا نكتسب نسقًا واسعًا من الاستعارات الأوليّة آليا وبصورةٍ لا واعية. وأن الإنسان يكتسبُ عددًا هائلاً من الاستعارات نتيجة تحركه المستمر في العالم وتصوره له.
ويؤكد الباحثان على أنّ الاستعارة الأولية هي عبارة عن نُسُوخٍ عابرة لمجالين، تعبر من مجال مصدر (المجال الحسي الحركيّ) إلى مجال هدف (مجال التجربة الذاتية)، فالاستعارةُ هي نسْخٌ تصوّريٌّ عابرٌ للمجالات.
ويتساءلان : هل يُمكننا أن نفكر في التجربة الذاتية والحكم بدون استعارة؟ ويُجيبان عن ذلك التساؤل بالقول: ذلك أمر صعب للغاية، فمُجرَّدُ اشتغالنا بصورة عادية في العالم يجعلنا نكتسب ونستخدم آليا وبصورة لا واعية عددا كبيرًا من هذه الاستعارات ، هذه الاستعارات تتحقق في أذهاننا فيزيائيا، إنها ناتجة عن طبيعة أذهاننا وأجسادنا والعالم الذي نقيم فيه.
إلاّ أنّ ثمّة اعتراضين يرِدان ، أحدهما من أنصار الفلسفة التحليليّة التي تنصّ على أن التصورات حرفية وغير مجسدة، فهم يرفضون التصورات الاستعارية ، ولا يرون فرض بنية الفكر وتحديدها من خلال الجسد.
والاعتراض الثاني من فلاسفة ما بعد الحداثة حيث نفوا أن يكون للعلم المعرفيّ نتائج باستطاعتها مدّنا بالأسس التي تُمكّننا من انتقاد رأي فلسفيّ مُعيَّن.
وقد أكّدَ الباحثان أنّ الذهن مُجسّدٌ، وأنّ نتائج العلم المعرفي المجسّد تُعارضُ افتراضات الفلسفة الأنغلوأمريكيّة، إذ إنّ البنيات التصورية تنشأ من تجربتنا الحسيّة الحركيّة ومن البنيات العصبيّة، وذهبا كذلك إلى أنّ الاستعارة المعقّدة تستدعي الأنماط الثلاثة الكبرى من النتائجِ: اللاوعي المعرفيّ، وتجسُّد الذهن، والفكر الاستعاريّ.
وتحت مبحث الواقعية والصدق بحثَ المُنظِّرانِ إشكالية التماثل بين الأفكار في الذهن وماهيات الأشياء في الخارج كما يرى أرسطو، وأوضحا أنّ تجسّد الذهن| العقل كما يكشفه العلم المعرفيّ يُزوّدنا بفهمٍ جديد للتلاؤم بين الذهن والواقع، حيث رأيَا أنّ نظرية الصدق تعاني من مشاكل كبيرة على كل الجبهات، وثمة فجوات عدّة كالتي بين اللغة الطبيعية والرموز مثلاً. فالصدقُ لا يُمكنُ أن يكونَ إلاّ صدقًا مُجسّدًا بما أنّه لا معنى له بدون الفهم.
فالمنطق الصوري لا يتوفّر على موارد تخوّل له تبيّنَ مظاهر التصورات البشرية والتفكير البشري، والسبب في ذلك أن المنطق الصوري غير مجسد، وحرفي، ولا تصويري، ولا استعاري.
أمّا القسم الثاني وعُنوانه (العلم المعرفي للأفكار الفلسفيّة الأساسيّة)، فقد ناقش فيه الباحثان ستّ قضايا كبرى: الأحداث، والسببية، والزمن، والنفس، والذهن، والأخلاق.
ويتساءل الباحثان عن كيفية قياس الزمن، فما نقوم به هو مقارنة حدثين بداية الحدث ونهايته، وعندما نسأل كيف يتم بناء الزمن تصوريًّا، نعثرُ على الاستعارة التصوّرية.
وقد استنتج الباحثان أنّ الزمن هو التصور الأشد فاعلية في تصوراتنا، فالزمن فضائيّ وله مسار واتجاه، فنحن لدينا استعارات مثل (الزمن المتحرك) فنقول مثلاً: جاء وقت الجد!، فاستعارات الزمن متجسّدةٌ كما ترى النظرية التصورية.
كما أنّ استعارة الزمن بوصفه متحركًا عبْرَنا أو يطير، لها استعمال هام: إنّها تسمح لنا بأنْ نقدّر استعجال الأحداث “المتوقّعة” فالأحداث القريبة منا تبدو ضخمة وتُعطي إحساسًا كبيرا بالاستعجال.
ومن استعارات الزمن (استعارة الفضاء– الزمن)، حيث إن الأزمنة هي مواقعُ في الفضاء، ففي أي زمن حاضر يكون الملاحظ المتحرك يتحرك نحو مواقع هي أزمنة مستقبل.
وكذلك (استعارة الزمن مورد ومال)، كقولنا: لقد منحتني الكثير من وقتك، انقضى الوقت ونفد، شكرا على هذا الوقت… فالاستعارة للمجرد|الزمن تتحقق ماديّا|المال والمورد.
ويصوغ الباحثان تساؤلاً مهمّا: هل يُمكننا بناء تصوّرٍ للزمن دون استعارات؟ ، ويُجيبان عن ذلك بقولهما: لقد توصّلنا إلى أنّه ليس بإمكاننا أن نُفكّرَ في الزمن دون هذه الاستعارات، وهذا يقودنا إلى أننا نبني تصورنا للزمن من خلال هذه الاستعارات، وأن هذا البناء التصوري للزمن بناء تكويني، فماذا يكون الزمن دون تدفّق ودون ذهاب ومجيء ودون مستقبل يدنو ويقترب…؟
وفي مبحث (الأحداث والأسباب) يُشير الباحثان إلى أنّ أعمق فهم لنا للأسباب والأحداث مصدره استعارتان أساسيّتان: استعارة بنية الحدث مكان، واستعارة بنية الحدث شيء، وتَستخدمان الاستعارتين الأوليّتين: الأسباب قُوى، والتغيّرات حركات.
فمثلا في استعارة بنية الحدث مكان، المثال التالي: لم أنَلْ سوى صداعٍ في الرأس (التغيّر اكتساب – حركة إلى) فالحدث هنا مكانيّ.
وفي استعارة بنية الحدث شيء، يأتي المثال التالي: تذوّق طعم النصر، الحدث هنا شَيءٌ يُؤكل.
وضِمن استعارة بنية الحدث مكان تُوظّف بعض الاستعارات الأوليّة من قبيل، (استعارة النشاط المتحرّك) كقولنا: الإصلاح في ملتقى الطرق. (الحالات أمكنة)، وكذلك (استعارة العمل– المكان).
أمّا في مبحث (الذهن) فقد استهلّ الباحثان فيه بالقول: من المستحيل افتراضيًّا أن نفكّر في الذهن أو نتحدّث عنه جدّيًا دون تصوّره استعاريًّا، فالذهن يتجلى بوصفه نسقًا جسديًّا، فالتفكير هو اشتغال فيزيائيّ، حيث إنّ هناك أربع حالات خاصة لاستعارة التفكير فيزيائي ، يُتصوّر فيها التفكير من أربعة أنواع مختلفة من الاشتغال الفيزيائي هي: التحرّك، والإدراك، ومعالجة الأشياء، والأكل.
فالتفكيرُ تحرّكٌ، فأن نتصور الفكر حركة، فهذا واضح من قبيل: كان ذهني يدور بسرعة، توقف ذهني برهة…، إذ تُعدُّ استعارة التفكير حركة أساسَ مفهومنا للعل الغائية حيث نتصور الغايات أسبابًا للأعمال التي نُنجِزُها.
والتفكيرُ إدراكٌ، حيث نحصل على أغلب معارفنا من خلال البصر، فبما أنّ الرؤية تلعب دورًا مهيمنًا في قدرتنا على الحصول على المعرفة، فإنّ أغلب أجزاء استعارة “التفكير إدراك” ترتبط بالرؤية.
والتفكير معالجة للأشياء، فمثلما للأشياء بنية فيزيائية، للأفكار بنية تصورية، فقولنا: حللت الأفكار التالية، فالتحليل هو بمثابة تفكيكها، بحيث يمكنك رؤية الأشياء والأفكار المكونة لها.
والحصول على الأفكار أكل، فمثلما يحتاج الجسد إلى التغذية، كذلك فإنّ الذهن بحاجة إلى التغذية، “فالأفكار أغذية“، فيُتصوّرُ التوقُ إلى الأفكار نهمًا للطعام، فنقول مثلا: لم أهضم الفكرة المزعومة، لا طعم لما يقول، الأفكار القديمة غير مستساغة…،
وفي مبحث (الأخلاق) يضع المؤلفان فكرة الأساس التجريبي لنسق استعارة الأخلاق، ذلك أن فهمنا الأخلاقيّ هو استعاريّ بشكل شامل، ومن ذلك (استعارة الرَّفاه ثروة) وهذه الاستعارة تندرج ضمن المحاسبة الأخلاقيّة، فالعمل الأخلاقيّ هو إعطاءٌ لشيءٍ ذي قيمة إيجابيّة، والعمل اللاأخلاقيّ إعطاء لشيء ذي قيمة سلبيّة.
وثمة استعارات للأخلاق من قبيل: الأخلاق نور، وعدم الأخلاق ظلام، وجمال الأخلاق، وميزان الأخلاق، وغيرها من الاستعارات ، التي تُبنين تصوراتنا، فتصوراتُنا الأخلاقيّة المجرّدة هي تصوراتٌ استعاريّة ماديّة.
ويتساءل المؤلفان: هل كلُّ الأخلاق استعاريّة؟ فيُجيبان بالنفي، فليس ثمّة ما هو استعاري لُزومًا في قولنا (الصحة جيّدة)، بَيْدَ أنّه عندما ننظر إلى ذلك القول في إطار أخلاق بشريّة كاملة نجد أنّ كل تصوراتنا الأخلاقية المجرّدة – العدل ،الحقوق، التعاطف ..- محدّد بوساطة الاستعارات.
وفي القسم الثالث الذي عَنْوَناهُ بـ (العلم المعرفيّ للفلسفة)، فقد ضمّ عشرة مباحث، ناقش فيها الباحثان آراء الفلاسفة الإغرقيين والغربيين كأفلاطون وأرسطووكانط وتشومسكي وغيرهم.
وتطرّقا إلى العلم المعرفي في الميتافيزيقا الإغريقية الأولى – ما قبل سقراط، حيث يذهب الفلاسفة الميليسيّون في القرن السادس قبل الميلاد إلى القول بالنظريّ العاميّة للعناصر، وهي:
الأشياء في الطبيعة مكونة من تأليف العناصر الأساسيّة: التراب، والهواء، والنار، والماء، وكلُّ عنصر يُحدَّد بتأليف من قيم الحرارة والرطوبة، كما يلي:
التراب: بارد وجاف
الماء: بارد ورطب
الهواء: حار ورطب
النار: حار وجاف.
إنّ الخصائص الظاهرة للأشياء التي نمارس تجربتها هي نتيجة لمختلف تأليف هذه العناصر ولخصائصها.
ويذهب الباحثان إلى أن الفلاسفة الميليسيين تبنّوا استعارة ماهية الوجود هي المادّة
أمّا استعارة طاليس (ماهية الوجود هي الماء) فقد بناها على تصور كل الأشياء انطلاقًا من الماء، إلاّ أن “أنكسمندر” أقرّ بوجود تناقض في رأي طاليس، وذهب إلى أنّ (ماهيّة الوجود مادّة غير محدّدة)، بَيْد أنّ “أنكسمنس” رأى أنّ (ماهية الوجود هي الهواء) .
ويُبرّر المؤلفان سبب احتفائهما بميتافيزيقا ما قبل سقراط، مُبيّنَين أنّ نظريتين ما زالتا تُستعملان إلى اليوم وهما النظرية العامية للماهيات والنظرية العامية للوجود، وقد اسهمت هذه النظريات في بروز التقليد الميتافيزيقي في الفلسفة الغربية.
وقد عثر الباحثان في فلسفة ماقبل سقراط على الاستعارات الثلاث الكبرى للوجود التي نحملها معنا إلى الآن: الماهيّة هي المادة، والماهيّة هي الشكل، والماهية هي نموذج التغير، هذه الاستعارات تحدد ذا النزعة المادية وذا النزعة الشكلية ، وميتافيزيقا السيرورة.
وفي مبحث (أفلاطون) يناقش الباحثان فلسفة أفلاطون التي رأيَا أنّها استعاريّةٌ في أصلِها، ففي محاورة سقراط مع غلوكون حول الفرق بين الفيلسوف “محب الحكمة” والشخص الذي نشغل بالظنون، هذه المحاورة التي ذكرها أفلاطون في جمهوريته، يرتكز استدلال أفلاطون على استعارتي الأفكار أشياء، والمعرفة رُؤية، وبعد ذلك يوسّع هاتين الاستعارتين.
وتحت مبحث (أرسطو) يذكر الباحثان أنّ أرسطو هو مسؤول عن تصورنا للميتافيزيقا أكثر من أي فيلسوف آخر، فلقد اعتبر الميتافيزيقا علمًا، وإذا كان أفلاطون يستخدم استعارة الماهيات أفكار، فإنّ أرسطو يستخدم الاستعارة المقلوبة: الأفكار ماهيات، وقد استخدم أرسطو في عباراته، استعارة الذهن وعاء، والفهم إمساك(قبض)، والأفكار أشياء فيزيائية.
وينتقد الباحثان أرسطو وعَمَاهُ عن استعاراته التصورية، فهو لم يستعمل تلك الاستعارات باعتبارها نُسُوخًا عابرة لمجالات تصورية، لذا فقد أُجبر بتطبيقه المتماسك لاستعاراته على نظريةٍ للاستعارة لم تكن ملائمة لوصف استعاراته الخاصة.
وفي مبحث (ديكارت والذهن التنويري)، يشرح الباحثان أهم أفكار ديكارت الفلسفية، وهي من قبيل:
– يستطيع الذهن أن يعرف أفكاره بيقين مطلق.
– كل الفكر واعٍ.
– البحث التجريبي ليس ضروريًّا من أجل إقامة معيّنة للذهن.
– الذهن غير مجسّد.
– تمثل بعض أفكارنا حقيقةً خارجية.
– أفكارنا فِطريّة.
– الفكر صوري تماما كالرياضيات.
وقد ناقشَ الباحثان ما ذهب إليه ديكارتْ ونقضَا رُؤيتَه الفلسفيّة، حيثُ إنّ العلم المعرفيّ أبطل كثيرًا مما تبنّاه، فالذهن ليس يقينيا، والفكر ليس واعيًا، والذهن متجسدٌ أصلاً.
وفي مبحث (الأخلاق الكانطية) يبيّن الباحثان أنّ كانط يستخدمُ أخلاق أسرة الأب الصارم هاتِهِ بوصفها عُنصرًا مركزيًّا في النظرية الأخلاقية عامّة، حيث إنّ الصورة المصغّرة للعقلانية في الأخلاق، تعتبر الجسَدَ مؤثرًا خارجيًّا، وليس هو ذاتك الجوهريّة.
إلاّ أنّ أخلاق كانط لحَظَ فيها المؤلفان نُسوخًا وإسقاطًا من المصدر (الأب|الإله|السلطة) على الهدف( العقل والإرادة)، حيث أوّلَ فهْمَه للأخلاق بوصفه شكلاً من أخلاق أبٍ صارمٍ، تبعًا للتأويل اللاهوتي، الأب الإله هو السلطة الأخلاقية الأسمى، ويُصدر أوامره على شكل قوانين اخلاقية تخضع لها كل مخلوقات الإله.
وإنْ كانَ كانط قد رفض الفكرة التي تقول إنّ الأخلاق مصدرها الإله، إلاّ أنّه يقبل بالأفكار الكبرى الأخرى لهذا التقليد الأخلاقي، ويحاول أن يُعطيها تبريرًا عقلانيًّا.
وفي حديثهما عن (الفلسفة التحليليّة) أشارا إلى أنّ التوجّه المهيمن في الفلسفة الأنغلوأمريكية للقرن العشرين، يُحَدَّدُ أساسًا باشتغالهِ باللغة، ويرتكز على ما عُرف بالمطلب اللغويّ، إذ لا مكان في صورة اللغة هاته للتجسُّدِ أو الخيال في بناء التصورات، أو التفكير، أو المعرفة.
إلاّ أنّ الباحثين ألفيا أنّ الفلسفة التحليليّة تستخدم العديد من اقتضاءاتاستعاراتنا اليوميّة للذهن، حيث تتعارض نتائج العلم المعرفيّ بشكل مباشر مع التقليدين الفلسفيين التحليلي والصُّوري، لا سيما في القضايا المحورية: ١– تجسد التصورات والذهن، ٢– اللاوعي المعرفي، ٣– الفكر الاستعاري، ٤– توقف الفلسفة على الدراسة التجريبية للذهن واللغة.
ويرى الباحثان أنّ التصور القائل بأنّ أي زوج “صورة– معنى” لا يُتنبّأ به انطلاقًا من قاعدة عامة هو زوج اعتباطيّ، هو تصور خاطئ، فغالبية اللغة ليست اعتباطيّة تمامًا ولا تنبّؤيّةً تمامًا، وإنّما “مُبرّرة” بدرجة معيّنة.
وقد عالجا في الفصل ٢٢ (فلسفة تشومسكي واللسانيات المعرفيّة)، حيث قد مزج تشومسكي أجزاء من الفلسفة الديكارتية بأجزاء من الفلسفة الصُّورية، ليشكّلَ منظورا فلسفيًّا ظل مستمرا خلال مسيرته العلمية.
فاللغة تتخذ عند تشومسكي الدور الذي يتخذه العقل في فلسفة ديكارت، أي إنّ اللغة تغدو الماهيةَ التي تُحدّد ما يُعتبر بشريًّا، كما أنّ الفكرة التقنية الرئيسة في النظرية اللسانية عند تشومسكي هي فكرة اللغة الصورية وهي الفكرة التي نشأت في المنطق الرياضي.
فالتركيب الخالص الخالي من المعنى: هو رموز اللغة الصُّورية ، في ذاتها، خالية من المعنى، وتحتاج اللغة الصورية إلى أنْ تُؤوّل لتصير ذات معنى.
وقد وضع الباحثان بعض الفروق بين اللسانيات المعرفية واللسانيات التشومسكية، حيث إنّ المقدرة اللغوية البشرية في اللسانيات المعرفيّة :
١– تُعتبر مقدرةً عصبيّةً أساسًا، إنها القدرة العصبية على الربط عصبيا بين أجزاء الدماغ المعنية بالتصورات والوظائف المعرفية.
٢– بنية اللغة بنية يُلازمها التَجسُّد، وكل المقولات النحوية القاعدية والبنية التي تفرضها البناءات تُشتَقُّ من بنية تجربتنا المُتَجسّدة.
٣– تُستحث المولات التركيبية بواسطة مقولات تصورية.
٤– البناءات النحويّة اقتراناتٌ بين مقولات تصورية مركبة ووظائف معرفية وبين وسائلها التعبيرية.
٥– القدرة التعبيرية هي القدرة الكاملة على التعبير عن التصورات والوظائف المعرفية.
٦– الكليات النحوية كليات تخص الاقتران الحاصل بين الشكل والمحتوى.
وفي القسم الرابع الأخير المُعَنوَن بـ (الفلسفة المتجسّدة) وهو قسم صغير جدا بالمقارنة بالأقسام الثلاثة السابقة، حيث لا يتجاوز خمسًا وعشرين صفحة، ابتدآ هذا القسم بفصل يحمل عنوان الكتاب (الفلسفة في الجسد) ويؤكدان فيه أننا حيوانات فلسفيّة، ففي قلب بحثنا عن المعنى تقع حاجتنا إلى معرفة أنفسنا – من نكون، وكيف نجرّب العالم، وكيف تشتغل أذهاننا.
وبما أنّ كل ما نفكر فيه ونقوله يتوقف على تقوم به أذهاننا المتجسّدة، فإنّ العلم المعرفي يُعدّ من أعمق مواردنا في معرفة أنفسنا، (ويُشير الباحثان إلى هذه المعرفة هي الغاية المُوَجِّهة لهذا الكتاب)
وأوضح كلاهما أن المسؤوليّة التجريبية تُعدّ في الفلسفة مهمّةً لأنّها تجعل الفهم الأفضل للذات ممكنًا، إنّها تمنحنا نفاذًا أعمق في سبيل الإجابة عن سؤال: من نكون؟
ثمّ ذكر المؤلفان الفرق ما بين التصوّر الغربيّ التقليدي للشخص، وتصوّر الشخص المتجسّد. ففي التصور الغربي التقليدي للشخص تبرز الأفكار التالية:
– أن العقل غير متجسد.
– العقل حرفي وليس ذا تصورات مجسدة.
– الحرية الجذرية، فالعقل واعٍ.
– الأخلاق الموضوعية حيث إنّ أخلاق الفرد الغربي هي أخلاق الله.
أمّا في تصور الشخص المتجسّد، فثمة اختلاف جوهري عما سبق، وتبرز الأفكار التالية:
– العقل متجسّد، والتصورات متجسدة.
– العقل استعاري وليس حرفيا.
– الحرية محدودة فالعقل غير واعٍ.
– الأخلاق مُتجسدة، فلا وجود لأخلاق عُليا.
– الطبيعة البشرية تتجاوز الماهوية.
ويختم الباحثان القسم الرابع بقولهما:
لقد كان العلم المعرفي، علم الذهن والدماغ، مُثمرًا إلى حدٍّ بعيد رغم تاريخه القصير زمنيًّا، لقد منحنا طريقةً تمكننا من أن نعرف أنفسنا بشكلٍ أفضل، وأن نرى كيف أن وجودَنا الفيزيائي- لحم، ودم، وأعصاب، وهرمونات، وخلايا، ونُقط اشتباك عصبي– مع كلّ الأشياء نحتكّ بها يوميًّا في العالَم، هو ما يجعل منا ما نحن.