د. طالب محمد كريم
يبدو من الوهلة الاولى من قراءة العنوان للدارس والباحث المختص ان هدف المقالة هوالخوض والكشف عن متبنيات العقل المنكمش الذي يتوجه بدافع نفسي للقبض علىالمعطيات او الادلة التي تُقنع فضول الانسان المعرفي نحو موجه ديني –غيبي – تنهيمعاناة الانسان من البقاء في الحالة المتلازمة له طوال حياته ومن ألم الشكّ والريبةوفقدان الدليل المُحكم المتناسق مع منطق الفكر السليم.
كلا ليس هدفي هو ذلك البيان الذي صار مدخلا للمقال
بل هو يشتغل في مساحة اخرى يتسم بالبحث وازدياد نمو المعرفة الذي يحتاج الىجملة من المقدمات المنهجية للتدريب العقلي والتمرس على تدوين الخطاب الواعيالهادف الى ترويض آليات العقل واخضاعه نحو مواجهة المدارس والاتجاهات المعرفيةالاخرى التي تتنوع بتنوع مصادر المعرفة والدليل .
وهذا مما يحتاج الى وقت زمني للتنقل بين المحطات التاريخية لموقف العقل من بزوغعلوم الطبيعة والفيزياء واكتشاف القوانين الصارمة وفصلها عن القوانين الليّنة القابلةللتطور اكثر من سابقاتها بسبب النمو المعرفي في دراسة علم بعينه او اتجاهات علميةمحددة كالعلوم الانسانية ( الفلسفة – الدين–الاجتماع – السياسة – التاريخ –الخ ).
نستنتج من المقطع اعلاه: هو اننا امام اتجاهين من العلوم هما: العلوم الطبيعية والعلومالانسانية
وغالبا مايدور النقاش او الحوار هو حول العلوم الانسانية التي لازالت لم تحسم امرها،من حيث هي:
هل انها مصنفة من ضمن حقل العلوم التي تمتاز بالمعنى التقني الدقيق للمفردة ام اناطلاق وصف العلم عليها هو من باب الاستعارة ليس الاّ ؟
وهذا ناتج من ان هذه العلوم (الانسانية )هي ليست علوماً بالمعنى الدقيق، ولم تستطعهذه العلوم ان تفصل نفسها ومنظومتها عن البنيات المعرفية الاخرى للعلوم، بل انحصول المعرفة التي نتوخاها تحصل من خلال مركبّات العلوم الاخرى التي تساهم فيدفعها والعمل نحو سيرورة العلوم.
اعتقد ان كتاب ( ضد المنهج ) الذي جاء به بول فيبراند قد تم اصداره من نفس الدافع الذياشرنا له اعلاه، يُمكن ان يكون افضل دليل على ذلك، حيث انه يزعم ( بول فيبراند) انجميع الطقوس والممارسات التي يظن البعض بها او يعتقد بفكرة وجودها هي مسموحبها ولا يمكن رفضها او العمل على ازاحتها من تاريخية العلوم ذو العلاقة بالوجدانالانساني ( كالسحر والاساطير ). حتى اصبح شعاره المثير للجدل هو: ( كل شيء يمرAnything goes ) وهو بحسب تعبيره المبدا الوحيد الذي يقبله والذي لا يعوق تقدم العلم.
ماذا تعني لنا كل هذه المقاطع التي تفحص عن ادوات المقارنة بينها وبين نظيراتها فيمكانة ومرتبة العلوم مرة والعمل الدؤوب للفرد للوصول الى منطقة امنة تتوسم بالدليلالعلمي مرة اخرى؟
إجابة السؤال تكشف عن حجم الانا المتضخمة التي تتوج الذات من خلال الحصول علىالشهادة العلمية العالية او المكانة الرفيعة التي يغلب عليها الطابع المعرفي. وهو يجهلحتماً معرفة العالم والحياة وسؤال الانسان حول الوجود والمصير . منتقلاً من سؤالالعقل الخالص الذي يتأمل الكشف عن المعرفة الى سلطة الذات المتصحرة الخالية منالعشب والماء.
هو ذلك الانسان الذي يفتقر الى ابسط الادوات التي تشفع في علاج داء او وباء.
لا يجيد استخدام الخوارزميات التي صرنا جزء من هذا الموضوع.
وقد يقف عاجزا كلما يمرّ على زجاجة تلسكوب ليطلع على حركة الكواكب والمجرّاتالسابحة في هذا الفضاء العظيم.
بل يصاب بالصدمة عندما يشاهد اقوام من البشر يختلفون عنا بالعادات واللغاتوالزيجات وطريقة الاكل والملبس، ويظل عاجزا عندما يساله سائل بلغة غير لغتناوبكلمات غير كلماتنا ولا يجيد فهمها.
عن اي انسان نتكلم بعد هذه الامثلة القليلة و اي درجة علمية نتمناها وفق نسبية العلوموالمعرفة والحقيقة ؟
لابد من ان نستعرض اهم المشكلات التي نعتقد انها جزء معقد مساهم في ضربانسيابية المجتمع والتراتب الهرمي وغياب القيم، في عدة نقاط هي:
١– هذا الانسان الفرد هو نفسه الذي يصول ويجول في الحوارات السياسة وادواتهاومطالبها، ولا يعد هذا عيبا ان نناقش أو نحاور او ان نطرح الروئ المتكاملة، بل العيبوالنقص في ايقانية ( دوغمائية) هذا الاستاذ أو صاحب الدرجة العلمية الذي يفترض بهان يكون المبادر في طرح جميع النظريات في ساحة الامكان مالم تتحول الى حقائق أوقوانين ونتائج متكررة.
٢– بل وربما الاغلب من الدارسين يجعل من هذه الآراء كأنها الهة جديدة تلزم الاخرين فيالتعبد بها ( تحويل الفكرة من حالة التنامي الى حالة المطلق).
٣– الالتزام بالخطوات المنهجية مهمة جدا وهي من صميم العمل الاكاديمي الرصين،فالقفز على الحقوق الفكرية للآخرين تعد بمثابة خيانة للكاتب الذي يسرق افكار وجهدالاخرين .
٤– الاستعداد النفسي للاستماع الى الاخرين والاصغاء الى وجهات النظر المدعمةبالقرائن العلمية هو اول الغيث الذي يشكل حوارا معرفيا منتجا، نحو الانفتاح العقليالذي يقبل النقد العلمي وهو غاية العمران الحضاري.
٥– لكل حقل معرفي ادواته الضرورية التي تضبط طريقة الباحث والالتزام الكاملبالنتائج التي يتوصل لها. فلا يمكن اقحام منهج معرفي اخر في حقل معرفي مفارق لهومختلف في الحدود والتعريف وطريقة البحث.
اعتقد ان اهمية النقطة الخامسة تكمن في انها تمثل التشكل العام لما يدور من نقاشاتفي بيئتنا الشرقية والعراقية منها على وجه الخصوص. اذ ان اكثر المشكلات التي تظهرفي لحظة معينة وقد يراها البعض على انها مفاجئة، هي في حقيقتها ليست مفاجئة بلهي امر طبيعي مقبل علينا ( هذا الامر ) بسبب غياب الاتفاق على ضبط الحوار وفقالمنهج المعرفي الذي يتفق مع اصل البحث، واخضاع المقولات التي تاتي على ألسُنالمناقشين او المحاورين الى منطق الفكر وتناسق لغة الكلام ومدلولاتها التي تحدد المعنىالدقيق.
في الختام اود القول ان الاستعلاء او البهرجة لا تتلاءم مع منطق العلوم وعشاق الحقيقة. ولا يكمن العيب في استخدام لغة عالية دقيقة مركبة بالمصطلحات العلمية، بل العيب انيكون الخطاب او الاطروحة سمتها الشاعرية والتسطيح ويغيب عنها لغة المنطق والفكرالسليم. ولا يمكن لنا ان نرفع من افكارنا البشرية القاصرة الى مكانة المقدس الذييستحيل اخضاعه للتحليل والتفكيك والنقد الصارم.