عبد المنعم الاعسم
في منتصف القرن المنصرم فاجأ الفيلسوف البريطاني برتراند رسل النخب الاكاديميةوالثقافية في العالم بالاعلان ان كتابه “تاريخ االفلسفة الغربية” الذي الّفه في الاربعيناتلا قيمة له، وانه أقدم على تأليفه آنذاك تحت دواعي الكسب المادي “وليس لأي غرض آخر” فيما اقدمت مكتبات ومؤسسات تسويق على طرح هذا الكتاب في اشلاف المهملات،والمهّم هو ما ذكره معلقون بان رسل قام، على نحو غير مباشر، باحراق كتابه الاشهروالذي يعد، حتى ذلك الوقت، منجدا في معارف التاريخ والفلسفة، لكن الاهم هو ما يتعلقبالاحباط الذي عم حركة التأليف ومصير “الكتاب” في عصر التحولات المثيرة.
دعوني اكرر ما سبق ان كتبته عن صديق لي كان على موعد سعيد مع دار النشر التيتولت طباعة وتسويق كتابه، وفي ذلك اليوم نفسه اصطدم باول احباط حين ابلغه صاحبمكتبة كبيرة انه لا ينبغي ان ينتظر مبيعا كثيرا لكتابه. نسخة او نسختين فقط. وفي اولجمعة حمل عشرين نسخة من الكتاب ليوزعها على معارفه في شارع المتنبي، وفي نهايةالنهار وجد اكثر من نصف تلك الكتب مطروحة على قنفات المقاهي وزوايا الممرات. وبعدعام ابلغته دار النشر ان نسختين من كتبه بيعتا فقط ويمكنه ان يستعيد بقية النسخ،وبعد عام آخر اضطر ان يوافق زوجته على ان تحرق مئتي نسخة من كتابه فانهمسيتحولون الى منزل جديد لا يتسع لهذه الكتب التي علاها الغبار. وفي جوف تنّورعتيق كان كتاب صديقي يُطعم اللهب افكارا سهر صاحبها الليالي في مخاضات الكتابةلتصبح كتابا ينظمّ ، في النهاية، الى اطنان واطنان من الكتب التي التهمتها النيران عبرالتاريخ، بيد اصحابها، جزعا او خشية، او على يد انظمة الاستبداد والجهالة.. او خلالإبطال قيمتها كما حدث لكتاب برتراند رسل.
***** *******
لقد اضطر ابو حيان التوحيدي الى احراق كتبه، في ايام قال عنها “انها نحسة” وجاء فيكتابه “المقابسات” شكوى الحال من تاليف الكتب بقوله: “الى متى الكسيرة اليابسةوالبُقيلة الذاوية، والقميص المرقع.. وقد، والله بُح الحلق وتغيُر الخلق” ثم اورد انه احرقكتبه بيده قائلا “ما ظننت بان الدنيا ونكدها تبلغ من انسان ما تبلغ مني“.
كما اقدم معلم الفراهيدي “ابو العلاء” الاديب البصري الشهير على طمر كتبه في باطنالارض ولم يعثر عليها بعد موته، متذرعا، في ساعة يأس “بلا جدوى العلم في زحزحةالجهل” فيما القى داود الطائي الملقب بتاج الامة بكتبه الى امواج البحر مخاطبا اياها:”لا فائدة ترتجى.. فقد اعشى بصر القلب بصر العين“. لكن الاديب المراكشي يوسف ابناسباط حمل كتبه الزاخرة بالمواجيز العلمية والاكتشافات والفلسفة الى حفرة في جبلعصي على الوصول، وقد اتلفها هناك وهو يردد القول: “دلنا العلم في الاول، ثم كاديضلنا في الثاني، فهجرناه“.
اما “سفيان الثوري” الذي هجا الاستبداد الاموي وحاصره المستبدون فقد اكتفى بتقطيعاوصال ما يزيد على الف جزء من مؤلفاته، ووقف على رابية ليذرو القصاصات رياحاعاصفة، وعثروا عليه وهو يردد: “ليت يدي قطعت من هنا، ومن هنا، ولم اكتب حرفا“.
على ان فهرس ابن النديم يشير الى ضياع مؤلفات وفيرة بين الحرق والطمر وموجاتالاستبداد التي ضربت الدولتين الاموية والعباسية “وقد تفضل بالتذكير عما فُقد منالكثير” وتحدث بهذا الصدد عن مذابح تعرضت لها مكتبات تضم امهات الكتب، كما حدثلمكتبة “آل عمار” في طرابلس الشام التي احرقت على يد الصليبيين وفقد منها ما يزيدعلى نصف مليون من امهات الكتب والمصادر، وتشاء المصادر والروايات ان تجمع على انجميع المؤلفات الاصلية لاخوان الصفا قد احرقت وان ما يتوفر بين ايدينا من سفرهمالعظيم لا تعدو عن طراطيش من ردود ومساجلات اعيد تركيبها على نحو ما يفيد معرفةاطروحات رواد التنوير العقلي الاسلامي في القرن العاشر الميلادي.
********
قلت لصديقي بعد ان نقل لي خبر القاء كتبه الى السنة النار في فوهة التنور، يجبعلينا ان نتأمل جيدا ظاهرة عزوف الناس عن اقتناء الكتب، فان العيب ليس في ما تحملهالكتب من معارف بل في بيئة تاريخية جديدة القت بالكتاب الى خارج الاهتمامات، ورويت له الواقعة التالية: في القاهرة دخلت احدى اكبر المكتبات وتجولت بين رفوفهاطويلا، فوجدت الغبار يعلو تلك الرفوف، وبخاصة كتب التنوير والابداع وعلوم المستقبل،وقدرت ان احدا لم يتصفح أغلفتها منذ فترة طويلة. قلت لمدير المكتبة: هل يصح ان هذهالكتب لم يصلها احد منذ شهر. ضحك الرجل قائلا: وقل من عدة اعوام.
***********
في السحريات الجارحة لدانتي في “الكوميديا الالهية” يهتف الحبيبان باولو وفرانشيسكا بعد ان انهيا قراءة كتاب عن الفضيلة: “فاجر ذلك الكتاب/ وفاجر ايضا مؤلفه/ لقد قررنا هجر القراءة“.