الاهوار حكايات وأساطير وتواريخ قهر13
نعيم عبد مهلهل / فرانكفورت
ذات يوم جاء بمشحوف يحمل ضابط أمن قضاء الجبايش وبعضاً من العناصر، وأخبرناأن مفوض الأمن (لغيوي) سيقضي يومين ضيفاً في القرية، وهو في مهمة رسمية، وعلىإدارة المدرسة أن تتحمل إقامته أكلا وشرباً وسكناً، وهذا يعني أنه سيبات مع المعلمين فيسكنهم.
تضايق المعلمون وكانت لواحد من المعلمين معرفة سابقة مع الضابط في تعارف مائدةالكأس في نادي الموظفين في الجبايش وهو من قال للضابط على سبيل النكتة لكنالقصد معروف هو: أستاذ الله يخليك الفلفل الأحمر لا يجتمع مع الفلفل الأخضر فيشجرة واحدة.
وبخبث قال الضابط: هذا يعني أن الشيوعيين حُمرٌ والمفوض لغيوي أخضر بعثي.
تلعثم المعلم وقال: لا أستاذ أنا قلتها للمزاح ويعني الأحمر حاراً وخطيراً؛ لأنه بالأمن،والاخضر بارد؛ لأننا معلمون ولكن وحقك مفوض لغيوي (نخليه بعيونه) بس رحمةلوالديك وجوده بيننا يجعلنا صمٌّ بكمٌ، فقط نريد أن نعرف لماذا هو ضيف معزز ومكرمبيننا وأنا من سيطبخ له.
قال الضابط غداً يصل قريتكم مصور فرنسي من صحيفة الغارديان (تعرفون الغارديان ياأساتذة).
قلت: سامعين بها فقط فلا أحد يتكلم هنا الفرنسية.
قال: هذا أفضل فالقيادة لا تريد لأي واحد من المعلمين الاحتكاك به والتكلم معه فنحن لانعرف نواياه.
قلت: أستاذ إذا كنتم لا تعرفون نواياه، فلماذا تسمحون له بالمجيء.؟
قال: أنا لا أعرف، ولكن السيد العام في مديرية أمن الناصرية أخبرني أن هذا المصور جاءليعمل تحقيقاً مصوراً عن طبيعة الأهوار، ولكن القيادة انتبهت إلى عنوان طلبه لوزارةالخارجية وعنوانها (البحث عن شيء في بابل) ومادام أن الصحفي اسمه إسحق فإنه قديكون يهودياً وأتى في مهمة تجسسية.
وقتها أصابنا الرعب، وفرحنا بأن يكون لغيوي ضيفنا؛ لأنه سينجينا من غفلة قد نقع بهاونجامل ونتحدث ونستضيف صحفي الغارديان، ثم ندفع الثمن غالياً بتهمة التعامل مععميل.
وهكذا تكوّمنا جميعنا في صريفة ننام فيها ونأكل وأفردنا واحدة إلى المفوض لغيويوحده الذي كان عشاؤه في اليوم الأول سمكة مشوية بحجمه، أكلها كلها مع كوب مناللبن الخاثر، فلم ننم ليلتنا من شخيره المدوِّي.
صباح اليوم الثاني وصل الصحفي الفرنسي بمشحوف يقوده شابان بدشاديش بيضويلفان رأسيهما بيشماغ. همس لي شغاتي في أول نظرة لهما قائلاً: هؤلاء شرطة أمن.
قلت: وكيف عرفتهما؟ قال: أميز المعيدي بين مليون.
ضحكت وقلت: سنأوي إلى صفوفنا وسنترك مصور الغارديان يصوِّر براحته.
تنقل الرجل في أرجاء المكان، وطوال النهار كان يصور المكان بكل تفاصيله، وحتى فيالليل صوَّر فسحة المكان في الليل حيث يلتمع النجوم مع الندى المتجمع على حوافالقصب الأخضر، وطوال وجوده كان يرمقنا بابتسامة وكنا نعيدها بابتسامة باهتةوحذرة خوفاً من نظرات لغيوي التي تتابع المصور أينما ذهب.
يومان بقيَ المصوّر، أراد أن يتحدث مع الرعاة فلم يفلح، مع التلاميذ فكانوا يضحكونويهربون منه. وعندما أراد أن يغادر، نطق بالإنكليزية قائلاً: أيها السادة أتفهم حذركم،ولكن أريد مصافحتكم للوداع.
اختبص لغيوي وقال لمعلم الإنكليزية: ما الذي قاله السيد.؟
قال: يريد أن يصافحنا ليودعنا.
قال لغيوي: لم يخبرني الضابط بهذا حتى أسمح لكم، لا تصافحوه.
هززنا له رؤوسنا مبتسمين.
وحين حمل عدته وغادر المكان وبينما كان لغيوي منشغلاً بتحريك المشحوف ودفعه. مرمصوِّر الغارديان قربي وقال بلهجة مغربية: أتفهمكم أيها السادة فأنا أفهم ما يحدث هنا.
بعد سنوات تذكرت هذه الحادثة وتاريخها فذهبت إلى أرشيف الغارديان لأبحث عن ذلكالربورتاج عن قريتنا وبيئة الأهوار، وحين وجدت عدد الجريدة عرفت أن الصحفي الذيجاء إلينا كان يهودياً من أصل مغربي، ومولود في مدينة الدار البيضاء……!