محمد السيد محسن
يعد مظفر النواب غير عدائي الطباع في حياته اليومية وتعامله مع الاخرين ، ويستمع لبعض الانتقادات من قبل الكارهين والحاسدين ويتسامى بشكل غريب دون ان يرد ، وقد مثلت هذه القضية شخصيته الهادئة والسلوك المؤدب الذي ينتهجه في تعامله .
بيد ان مظفر النواب تأخذه الغيرة على تاريخه النضالي كما حدث مع “أبو گرون” في الخرطوم وتأخذه الغيرة على العراق بشكل ملفت للنظر كما سيأتي:
كانت جلساتنا مع مظفر النواب في معظمها جلسات خمرية فيها الكثير من المودة والمحبة، وكانت عبارة ان صالون ادبي رفيع المستوى يبدأ بتداول اهم قضايا الساعة ، ثم في محور ثقافي دون قصد وترتيب بالطبع وتنتهي الجلسة عادة بالغناء والشعر، وكنا نحرص على اعداد متطلبات الجلسة نحن الذين نحيق بمظفر واذكر منهم : باسم قهار ، جمعة الحلفي ، كريم جواد ، شكر خلخال، إبراهيم الزامل، واحمد المختار
بالإضافة الى مجموعة أصدقاء يتواجدون حين قدومهم للشام مثل رياض النعماني.
وكنا نحن الشباب ننجز كافة متطلبات الجلسة ولا ندع مظفر يدخل المطبخ احتراما له، وفي يوم من الأيام كان هناك ضيف فلسطيني لا يسعني ان اذكر اسمه ، كان متخصصا في التراث الشعبي الفلسطيني ، وكان قيادياً فلسطينيا معروفاً ، بدأ الحديث عن تقارب التراث الشعبي الفلسطيني مع العراقي من خلال ابيات العتابة وترنيمات الأطفال ، ثم تحول النقاش الى منجزات الثقافة العراقية والفلسطينية فقال : العراق ليس فيه ثقافة حقيقية قبل جبرا إبراهيم جبرا ، وان هذا الرجل هو المؤسس الحقيقي للثقافة العراقية.
ولمن لا يعرف جبرا إبراهيم جبرا ، فهو كاتب فلسطيني وناقد تشكيلي ولد في بيت لحم عام ١٩٢٢ وسكن العراق في اول تغريبة فلسطينية بعد عام 1948 وبقي في العراق حتى وفاته عام 1994 .
ويعتبر العرق بالنسبة لجبرا الرئة التي تنفس الثقافة من خلالها مستفيداً من الأجواء الأدبية والثقافية في العراق والتي كانت في اوج مراحل نضجها منذ بداية القرن العشرين ، وساهم العراقيون في رفد ثقافات دول عديدة ، والمشاركة في بناء وتأسيس دول عربية عديدة وكانت لهم الريادة في قيادة اهم حزبين قادا المنطقة العربية الا هما الحزب الشيوعي وحزب البعث
بالعودة الى جلسة مظفر النواب ، حيث كان حديث الرجل مزعجا لنا نحن مجموعة العراقيين الذين استضفنا هذا الرجل الفلسطيني ، ولكن صمتا دب في الجلسة دون تعقيب، انتظارا لمظفر النواب ان يرد او يبدأ نقطة حوار جديدة .
نهضت دون قصد الى المطبخ لحاجتي لشيء ما ، فلحقني مظفر وتحدث بصوت هادئ جدا ، حيث قال : هل سمعت ما قال؟
قلت اجل ولكني لم ارد احتراما لك ولبيتك
فقال لي … بل اريدك ان ترد ، انا الذي يحب ان لا ارد لانه ضيفي وفي بيتي.
وبعد لحظة صمت قلت له ، افتح حوارا يتعلق بالتقارب بين التراثين العراقي والفلسطيني كما ذكره في بداية الجلسة ولكن ركز على الابوذية وتشابهها مع العتابا ، وسادخل التواليت لمزيد من الخصوصية لاكمل بيت ابوذية حيث سارد عليه.
فهم مظفر ما قصدت ، وكان كثير الثقة بي فهو يقول لي دائما اني اذكره بشبابه ، أني اشبهه في كثير من محطات الحياة ، من حيث السجن والعيش في ايران والسجن فيها وحب الشعر والارتباط باليسار ، بيد اني في الحقيقة كنت اشعر بالفخر والزهو حين يصفني مظفر بهذه الصفة .
عاد مظفر الى الجلسة فيما دخلت الحمام وبدأت بتأليف بيت ابوذية وكان لزاما علي ان احفظه ، على اعتبار انه قديم وليس وليد اللحظة.
عدت الى الجلسة وكان الحوار عن الابوذية كفن شعري والعتابا والمتشابهات بينهما ، وما ان جلست حتى قال مظفر :
أستاذ محمد السيد محسن يكتب الابوذية بشكل جميل ..ياريت يسمعنا بيت ابوذية
فقلت :
انصحه ودوم مني النصح يبرا
عمت عينه ولا من ضيم يبرا
يقرا ليبرا إبراهيم يبرا
يريد يصير مفتي الكاولية
..
ما ان انتهى البيت حتى نهض الرجل وكان متخصصا بالتراث الشعبي ، وقال :
أبو عادل انا انهنت بي بيتك
التزم مظفر الصمت ولم يعلق ، فبدأ الرجل بالخروج ولم يلحقه احد من الجالسين ، حتى انه فتح الباب واغلقه لوحده ، وبعد لحظة صمت قال مظفر :
ليس من الادب ان يهين العراق في بيت عراقي وامام عراقيين ، تعمدت ان ترد له الاهانة ، ثم التفت الي بسنّ ضاحك وقال : اسمعني بيت الابوذية من جديد، اسمعته ودب الضحك وعادت الأجواء عراقية بالمحبة والغيرة على العراق وسمعة اهله وثقافته وتاريخه ونضال مبدعيه.