د. حسن السوداني
بعد الانتهاء من قرائتي لرواية “جزيرة الدكتور مورو” للكاتب الانكليزي (أتش جي ويلز) بترجمتها الحديثة للمترجم العراقي علي سالم ووصولي الى فصلها الأخير حين يبدأ المتحولون بالعودة إلى جذورهم الحيوانية التي جاؤوا منها حتى قفزت إلى ذهني فكرة ان الفعل التكنولوجي المتداخل مع الأصل البيولوجي للكائنات لا يمكن ان يكون بديلا دائم وفعال دون ان يترك ندوبا في النفس او الذاكرة وحتى في المظهر الخارجي فضلا عن الأثر الأخلاقي المتأتي من ممارسة الخطيئة بكل أشكالها المتدنية! هذا الأمر لا يختلف كثيرا عن أولئك المتحولون فكريا, فالتجارب الاجتماعية تثبت لنا ان التبني الفكري لمعتقدات دينية أو سياسية أو اجتماعية مغلقة سترافق معتنقيها الى النهايات حتى وان أعلن هؤلاء أنهم تخلوا عنها وان اغلبهم سيبنون كهوفا جديدة لا تختلف كثيرا عن تلك التي خرجوا منها ويصبحون بمرور الوقت أكثر قسوة مما هم عليه رفاق الأمس!
ان قراءة متانية لهذا النص المكثف جدا تستدعي تحقيل القراءة الى مستويات متعددة تبدأ من فكرة الرواية ولا تنتهي برشاقة اللغة التي ترجمت اليها بالرغم من وقوع الكاتب ((أتش جي ويلز) بفخ الراوي –البطل وهو من الفخاخ التي غالبا ما يقع فيها المؤلفون على اختلاف مستوياتهم ! ذلك ان الرواي للاحداث ومهما بلغت درجات وصفه واتساع رقعة خياله لاهوال ما مر به الا انك تعرف مسبقا انه حي ولم تستطع تلك الاهوال من القضاء عليه ! فهو من يقص الحكاية وهو من يقتل التشويق المسبق لدى القارئ بالبحث عن مصير البطل كونه هو المتحدث اصلا! غير ان هذا النقطة التي عددتها فخا لا يمكن لها ان تكون خافية عل قامة روائية كـ (أتش جي ويلز) فهو من يجبرك للدخول الى عوالمه دون الكثير من العناء بما تحمله تلك العوالم من مخاطر واحداث ربما ستعيش معك فترة ليست بالقصيرة! ومن هنا فالبحث عن السر الخفي للكشف المسبق عن مصير البطل تستدعي تاملا لمجريات الاحداث وقراءة ما بين سطورها فالرواية تتارجح بين الماء والعزلة المطلقة فهي تبدا اولا على سطح متحرك- السفينة – الماء- وهو امر مثير للقلق المسبق ثم ينتقل الى مكان اخر محاصر بالماء ايضا –جزيرة مجهولة لا تمر بها السفن في عرض المحيط. وهما امران يمهدان لريبة من هذه العزلة القاتلة ومناخا مناسبا يضع فيه المؤلف ما يحلو له من عناصر الادهاش, المستوى الاخر من القراءة يشمل طبيعة العلاقة بين شخصيات الرواية والسلوك الذي يتبعونه بما يحمله ذلك السلوك من فهم مألوف للاحداث او غريب جدا يحدوك للتساؤل كقارئ عن مبرراته لتجد الاجابات عنها في متن الرواية فيما بعد , ويمكن ان تكون المحاورة بين برنديك والدكتور مورو انموذجا لما قصدته في هذا الامر فالدكتور مورو يبرر الفعل اللا اخلاقي من وجهة نظر الناس جميعا بالفعل الاخلاقي لديه هو!! فما يراه الاخرون مألوفا ينكره هو ويعتبره نوعا من ازمة الفهم السائد والبليد لدى الاخر!! ومن هنا ينشا صراع بين القيم الاخلاقية وبين التصورات العلمية التي تطيح بالقيم على حساب التجربة! المؤلف هنا يعود مرة اخرى للوقوع في (مألوفية) النتائج عندما يحدد لبطل الرواية الاخر(الدكتور مورو) مصيره البشع على يد احد ضحاياه وكانه يرد ان يقول لنا ان يستحق ذلك المصير البشع وهو انحياز ضمني للاخلاق على حساب العلم او التجربة! ربما هذه النقطة تذكرنا بقضية مماثلة طغت في المجتمعات الانسانية ابان محاكمة مخترع القنبلة الذرية (اوبنهايمر) والتي اودت اختراعاته بحياة الالاف من الناس بالرغم من دفاعه عن فكرة الانتاج ومعارضته لفكرة الاستخدام! مستوى اخر في قراءة هذه الرواية يبرز في نتائج ما يتوصل اليه بطل الرواية برنديك بعد ان يتخلص من عالم المسوخ ليعود الى عالمه الحقيقي ليكتشف ان لا يختلف كثيرا عن ذلك العالم الذي تركه فهو يعبر عن ذلك بالقول” لقد كانت غربتي بين البشر لاتختلف كثيراًعن غربتي التي عشتها مع الوحوش” وهو استنتاج خطير يعكس مدى التردي القيمي الذي وصلت اليه المجتمعات التي تدعي التحضر وتتغافل عن مشاعر الناس وخصوصياتهم .
وانت تتجول في متن هذه الرواية والخوف الذي تبثه في داخلك الا ان استنتاجا مغايرا يتملكك في النهاية يستدعي تعاطفك التام مع هؤلاء الذي اجريت عليهم التجارب وحولتهم من حيوانات وادعة الى مجرد مسوخ كاسرة ليست لها احلام غير العودة الى اصولها التي خلقت عليها وهي ادانة ضمنية هائلة للقوى التي تتلاعب بمصير البشر وتجعل منهم مجرد وسيلة لاشباع غاية فئات محددة تمتلك المال والسلطة ومن هنا تكمن اهمية هذه الرواية المكثفة في احداثها والشاسعة في اهدافها وما تكتنزه من نبل انساني نادر.
المترجم العراقي علي سالم بما يملكه من رشاقة لغوية وخبرة واسعة في الترجمة جعل من قراءة هذا العمل الادبي نزهة ممتعة لا توجد في منغصات ولا عوائق وتحلق بك عاليا في سموات الخيال والمتعة.
(Visited 8 times, 1 visits today)