في ذكرى جريمة سبايكر… كيف نرد على الجريمة؟

في ذكرى جريمة سبايكر… كيف نرد على الجريمة؟

بقلم : محمد زكي ابراهيم

سنوات ست مرت على إعدام طلبة القوة الجوية العراقية في تكريت، في ذروة السعار الطائفي، الذي ضرب المناطق الغربية من العراق عام 2014. لكن ذكراها ماتزال تثير مشاعر الحزن والأسى في النفوس.

ولأن الحزن النبيل هو ذلك الذي يصنع القوة، ويبعث الأمل، ويصحح الأخطاء، فقد كانت هذه المأساة المروعة، أحد أهم أسباب النصر الذي تحقق على مدى السنوات الثلاث. وأحد أقوى عوامل الاندفاع نحو ساحات القتال.

وكان المقاتلون بمنتهى النبل، فترفعوا عن أي شكل من أشكال الانتقام، ولم يمارسوا أي نوع من أنواع الإذلال. وأنجزوا نصراً كريماً، بأعلى ما يمكن من الرجولة والشرف.

لكن الواقع أن مردودات هذه الجريمة هائلة وضخمة، فعدا عن العار الأبدي الذي لحق بالفاعلين، ولطخ صفحة تأريخهم بالخزي الذي لا يزول، فإن الهدف الذي ارتكبت من أجله الجريمة لم يتحقق أبداً، وقام ذوو الضحايا، وأصدقاؤهم، ومحبوهم، باستعادة الزمام. وتوارى القتلة عن الأنظار، دون أن يحظوا بالجائزة على الإطلاق.

لكن ما يجب أن يطرح على بساط البحث، ويفكر فيه الجميع بروية، هو كيفية منع تكرار هذه الجريمة، وضمان عدم حدوثها مستقبلاً في تكريت وسواها من المناطق “الغربية” العراقية، وليس التفكير فقط بالقبض على الفاعلين، وإيداعهم السجون، أو حتى تعليقهم على أعواد المشانق.

بالنسبة لي لا أظن أن إنزال العقاب بعدد محدود من الأشخاص هو الكفيل بعدم ارتكاب فاجعة أخرى مماثلة. فهناك من شجع، وآزر، وحرض. وهناك من انتشى، وفرح، وهلل. وهناك من وشى، وخدع، وكذب. وهناك من لم يتدخل بكلمة طيبة، أو موعظة حسنة، أو حس إنساني، ولا يمكن القصاص من هؤلاء جميعاً، لعدم وجود شهود، أو مواد قانونية تدينهم.

لكن بقاءهم على ما هم عليه من كراهية، وغل، وخيانة، وحقد أعمى، يعني أن النصر لم يكن كاملاً. وأن هناك واجباً آخر ملقى بعاتق أبطال التحرير، لا بد من إنجازه.

هذا الواجب ليس القتل، ولا الإبادة، ولا السجن، ولا التشريد، ولا الإبعاد، وغير ذلك من أشكال العقاب. فمثل هذه الأمور لا تفي بالغرض، الذي خرج من أجله الثائرون، ولا تشفي صدور الأمهات الثكالى أو الآباء المفجوعين.

إن إصلاح البيئة التي خرج منها هؤلاء الذين تلوثت نفوسهم بالخطيئة، هو النجاح الأكبر الذي يجب أن يتحقق على نحو شامل، لأنه وحده الذي يقطع الطريق على أي انحراف يمكن أن تسمح به الظروف في المستقبل.

فهذه الضباع الجائعة لم تنهش أجساد الضحايا دون وجود دوافع، وغايات، مع أنهم كانوا طلبة صغاراً لم يمض على انتظامهم في معسكر تدريب، إلا وقت قصير..
هذه الدوافع هي في الأصل فكرية وتأريخية وطائفية، نجمت عن الترويج لمعتقدات سلفية بائسة تكفر الآخر، وتستحل دمه. أو نتيجة الشعور بالهزيمة الساحقة في نيسان 2003، أو الظن أن لحظة الانتقام قد أزفت، بعد ورود أنباء عن اجتياح طائفي لمناطق مجاورة.
إن القضاء على هذه الدوافع هو الثأر الحقيقي لألف وسبعمائة شاب، نحروا على أيديهم دون ذنب أو جريرة. وهو الضمانة الحقيقية لمنع تكرار هذه الحادثة في أي عصر من العصور.
وغني عن البيان أن هناك أشخاصاً كثيرين داخل هذه التركيبة العشائرية لم يرق لهم هذا الفعل الشنيع، ولم يسهموا فيه بأي عون. وكانت قلوبهم تتوجع من الظلم الذي وقع على هؤلاء الفتية، فالطبيعة البشرية النقية في أي مكان من العالم ترفض أن يعامل الإنسان بهذا القدر من الهمجية.
إن إزالة قواعد السلفية ليس صعباً كما يتخيل البعض، لأنها لا تشيع إلا عندما تحظى بدعم خارجي، وأموال، وفتاوى، وغير ذلك من أمور. وهي لم تستشر في العراق، إلا حينما حوصر اقتصادياً واجتماعياً في تسعينات القرن الماضي. والسبيل الأمثل لنزع هذا الانحطاط العقلي يتمثل في انقطاع هذا الدعم، وبدء عملية تنمية اقتصادية وبشرية شاملة. تنزع الغل من النفوس، وتنشر المحبة والتسامح بين الجميع.

ولا شك أن الذين عاشوا في هذه البلاد يذكرون أن الانتماء الحقيقي المشحون بالمحبة والألفة والتعاون كان سمة مميزة للعراقيين، بمواجهة أخطار خارجية وداخلية.

وكانت الإنجازات العراقية في كل الميادين التاريخية والحضارية والثقافية، تخلق نوعاً من الشعور باحترام الذات، وتدفع باتجاه التفوق والنجاح.
وكان حب آل البيت النبوي، وتقديس رموزه، والانتماء إلى خطه، سمات مشتركة لا يختلف عليها اثنان من العراقيين، قبل أن تلقي السلفية في نفوس البعض منهم الشك والريبة، وقبل أن يحملها رجال النظام المندثر، المشبعون بالطائفية، محمل العداء.
وهناك العديد من الثوابت التي تجمع الصفوف، وتوحد القلوب، وترفض المساس باجتماع الكلمة، ولا يروق لها هذا المنهج الدموي القبيح، الذي جاء على حين غرة.
إن التخطيط المتقن، والتفكير السليم، هما أداتا التغيير في كل مكان وزمان، وهما ما يجب أن يشرع فيه العراقيون لحل هذه المعضلة، وغيرها من المعضلات التي قد تحدث في قابل الأيام.

إنني أؤمن أن أياً من هذه الخطوات لم يبدأ بالفعل على الأرض. فقد شغل الناس، ورجال الدولة، والنخب الفكرية والدينية، بأشياء أخرى، ربما تكون أقل خطراً منها. وقد يكونوا يئسوا من أي مشروع من هذا النوع. أو تركوا الموضوع للأيام، تتولى علاجه دون تدخل من أحد، أو أن هناك من يعيق أي خطوة في هذا السبيل.

وأؤمن أيضاً أن جميع هذه الاحتمالات قائمة. لكن الشروع بأي خطوة مهما كانت صغيرة ستكون ذات مردودات نافعة، لا تخمد بمرور السنين. وهي أفضل من ترك الأمور معلقة، دون علاج. فحركة التاريخ مستمرة، لا تتوقف، ولا تعود إلى الوراء أبداً.

(Visited 12 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *