الاجراءات التي اتخذتها الحكومة العراقية بتخفيض العملة المحلية كان خيارا اضطراريا مهما برر المسؤولون الاسباب الايجابية او التوقعات الحسنة لهذا الاجراء ، فالجميع يعرف خارج التخصص المالي والاقتصادي أنّ دعم المنتوج المحلي الذي يمثل الحسنة الوحيدة التي يسوقها المسؤولون تفترض بدايةً وجود منتوج محلي من صناعات وصناعات تحويلية وزراعة ومنشات انتاجية منافسه ، لكن هذا لم يكن ولم يتم العمل عليه قبل اتخاذ هكذا اجراء ، ولذلك يخشى المتشائمون من تداعيات هذا القرار من أنه سيدخل العراق في مرحلة أقسى من الحصار الجائر الذي فرض في التسعينات على العراق، فاذا كان الحصار الدولي المدمّر الذي فرضته أميركا على شعب العراق لتقييد كل شيء فيه من التكنلوجيا الحديثة الى إطارات السيارات وابر الخياطة جعل بعض الناس تأكل من المزابل ، فخطورة الحصار الجديد أنْ تأكلَ الناسُ بعضها، في بلد متخومٍ بالغضب والسلاح والعصبيات الشرسة التي لاتعرف ماهو المستقبل وماهي العدالة وماهو الوطن وماهو الانسان أساساً ، وبهذا يمكن ان يفقد العراق وشعبه فرصة اخرى للتقدم والبناء لعشر سنوات قادمة كما فقدها اثناء حصار التسعينات وما أعقبها من انهيار للدولة أكمله الإحتلال وما أعقبة من أداء سياسي وحروب وتحديات وإرهاب وجهل في إدارة الدولة، أوصله اليوم الى كيانٍ يبيع النفط فقط ، يرتفع سعره/ دولة غنية يتقاسم ثروتها حكامها، ينخفض سعره/ دولة فقيرة لاتقوى على سداد رواتب موظفيها، لازراعة لاصناعة لا استثمار لاانظمة حديثة لا مدن جديدة ، وكأنّ العراقَ دولةٌ مشوّهةً في المنطقة والعالم، لاهو من الفقراء ولاهو من الأغنياء ، مهدد دائما من داخله ومن خارجه ،من اصدقائه وأعدائه على حدّ سواء!!.
الحصار الأول القاتل كان صريحاً بفعل أجنبي ومؤامرة معلنة غير مبطّنة كما هو معتاد ، استغلت حماقة صدام باحتلال الكويت وهزيمته في الحرب ، فتركته لأربعة عشر عاما طليقا حراً مستمتعا بسلطة ناقصة ، فيما بالغت في معاقبة العراق الدولة ليتضور شعب العراق من الجوع والتأخّر المعرفي والأمراض الفتاكة التي قتلت مليون طفل عراقي.
لكن الحصار المقبل سيكون بأيدٍ عراقية مغذّى من الخارج وعلى رأسه الولايات المتحدة التي ستستغل التصعيد والحماقات الداخلية التي تجيد استثمارها ، كذلك التوتر ولعبة جر الحبل مع ايران من جهة والتباعد السياسي بين المكونات العراقية الحاصل الآن بوضوح ، مما يسهل الضغط على الداخل حتى ينفجر ، ليبدو الحصار هذه المرة بنكهة عراقية خالصة.
المتغير في الحصارين أن جيل 2020 ومايليه ليس كجيل 1988 والتسعينات المنهك في ظل حكم ديكتاتوري صارم يحسب الانفاس، جيل 2020 ولد في رحم الفوضى وتقاطع السلطات وانفلات المصطلحات والتعاريف بين الارهاب والمقاومة والديمقراطية والدين والثأر للتاريخ أو الحنين الى السلطة او التفكك او العدو الصديق والمسؤول الذي يعمل ضد بلاده والهوية الضائعة للدولة – دينية – علمانية – منضبطة – اباحية – اشتراكية – راسمالية – دولة قانون ام عشائر ام ميلشيات ام تجار !!!؟؟؟ لكنّه استل منها مبدأين جوهريين في غفلة من جيوش التجهيل والتعتيم واثارة الاعصاب العقائدية ، مبدأ الحرية ومبدأ التضحية والفداء.
هذان المبدآن ترسخا في روح هذا الجيل ، ففي الوقت الذي أرادت فيه الطبقة الحاكمة من الطائفيين أن تكسَبَ القلوبَ والسكوتَ على الخطأ تحت ذريعة نصرة المذهب والانتصار الى دماء الشهداء من الأئمة ، انفجرت القلوب المؤمنة حقا ضد فسادها وجهلها وإهمالها وتفريطها بمستقبل هذا الجيل الذي ضحى وقاتل الإرهاب وأطاع ذوي القربى في قراراتهم ودساتيرهم وانتخاباتهم وتشكيلاتهم وغَضّ الطرفَ طويلاً عن شراهة مكاسبهم وذويهم ومنزلقاتهم السياسية ، وهو يشاهد نزاعاتهم ومشاكلهم واعترافاتهم على بعضهم تملأ وسائل الإعلام المختلفة،تاركين شؤون الدولة تنهار ليقترضوا ممن يصنفونهم أعداءً،ويستجدون العون من دول يعترضون على سياساتها وحتى وجودها ، يقترضون من دول أصغر من بلادهم وأقل ثرواتٍ منها.
جيل العشرين بعد الالفين اذاً سيكون جيل الآباء الذين سيعانون مع أبنائهم في العشر سنوات المقبلة وقائع الحصار الثاني على العراق،وهو آخر مرحلة من مراحل اسقاط القرار الوطني العراقي المستقل ، ليلعب العالم به مايشاء كما لعب به جرّاء الحصار الأول، بعد أن تنتهي آخر جولات المواجهة بين ما يسميها المسؤولون العراقيون الرسميون قوى اللادولة وقوى الدولة ، والطرفان يتقاضيان رواتبهما ويتزودان باسلحتهما من الدولة المنهارة ذاتها.
هل العراق مقبل على حصار اقتصادي جديد؟
(Visited 5 times, 1 visits today)